كمال شريعة الإسلام والتحذير من أهل الأهواء

(أُلقيت خلال انعقاد مؤتمر المرأة ببكين، عام:1416هـ).

 

 

     الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرع لنا أفضل الشرائع والأحكام، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه العظام، ونعمه الجسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، سيد الأنام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام، ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم إلى يوم المعاد.

أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى ربكم لعلكم تفلحون، فإن تقواه سبحانه هي الحصن الحصين من المخاوف، والدرع الواقي من المهالك، وهي السبيل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

عباد الله: لقد خلق الحق سبحانه وتعالى الخلق لعبادته، وأمرهم بطاعته، وبعث إليهم رسله مبشرين ومنذرين، ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، وليهدوهم إلى سواء السبيل، حتى انتظم سلكهم، واكتمل عقدهم ببعثة سيد المرسلين، وإمام المتقين صلوات الله وسلامه عليه، فأكمل الله تعالى به الدين، وأتم به النعمة، وأقام به الحجة على الخلق أجمعين (اليوم أكملت لكم دينَكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)[المائدة: 3]، ولم ينتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى حتى ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجاءت رسالته عليه الصلاة والسلام خاتمة للرسالات السماوية، ومكملة للشرائع الإلهية، كاملة في أحكامها وتشريعاتها، قد بلغت الغاية في العدالة، والنهاية في الفضائل والأخلاق، واشتملت على أرقى النظم والتشريعات الصالحة لكل زمان ومكان، فجاءت بحمد الله وفضله محققة للمصالح البشرية، ودارئة عنها المفاسد والأضرار، فدين الإسلام هو الدين الحق الذي هيمن على الأديان السابقة، ونسخ الشرائع السالفة، ولن يقبل الله من أحد ديناً سواه (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)[آل عمران: 85].

وإن الأمة الإسلامية متى استمسكت بهذا الدين القويم، وعملت بأحكامه، وطبقت شرائعه وحدوده في جميع الشئون، وعلى كل الأحوال والظروف، وعلى مستوى الأفراد والحكومات والشعوب، سعدت أكمل سعادة، وبلغت في العز أعلاه، ورقت في المجد ذراه، ووصلت إلى ما تصبوا إليه من السيادة والتمكين، والنصر المبين، كما كانت عليه أمتنا الإسلامية في عصورها الزاهية، وقرونها المفضلة حيث استطاعت أن تكسب المعارك التي خاضتها مع الأعداء، وأن تستولي على الكثير من البلاد شرقاً وغرباً في زمن قياسي، مع ما كانت عليه من قلة في العدد، ونقص في العتاد، وما ذاك إلا بفضل الله تعالى، ثم بتمسكها بدينها حقاً وصدقاً، واستبسالها في رفع راية الإسلام، وإعلاء كلمة الله، وما حققته للبشرية من معالم الخير والبر، وما كانت عليه من نشر ألوية الفضيلة والأخلاق، وضمان العدل والإحسان لبني الإنسان، حتى أصبحت خير الأمم شأنا، وأقواها نفوذاً، وأعزَّها سلطانا، وتحقق لها وعد الحق سبحانه بقوله (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)[الحج: 40]، وقوله عز وجل: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً)[النور: 55]، ولكن حينما ضعف تمسك المسلمين بدينهم في أعقاب الزمن، وأعجبوا بما عليه الأعداء، وساروا خلف ركابهم، وتنكر كثير من أبناء الإسلام لدينهم، أصبحت النكبة على الإسلام نكبة عظمى، حيث تسلط عليهم الأعداء، فأذاقوهم ألواناً من الذل، وأصنافاً من الاستعباد، وألحقوا بهم أعظم الأضرار، وأشد الأخطار كما هو واقع الأمة الإسلامية المؤلم اليوم.

أيها المسلمون: إن أعداء الإسلام كانوا ولا يزالون يتربصون بالمسلمين الدوائر، ويكيدون لهم المكائد، ومعاركهم معه منذ فجر التاريخ الإسلامي دائرة، لا يألون جهداً، ولا يدخرون وسعاً في الوقيعة بالمسلمين، والقضاء على الإسلام، وإضعاف هدايته، وإطفاء نوره (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)[التوبة: 32].

وهاهم اليوم يعاودون كَرَّةً من كراتهم السافرة، وحرباً من حروبهم المعلنة ضد الفضيلة والمروءة، ويعلنون عبر مظلات عالمية الدعوةَ إلى الرذيلة، وفتحَ أبواب الفواحش والمنكرات، وخلعَ جلباب الحشمة والحياء، وتقويضَ الأسر، والخروجَ على القيم الإنسانية، والأخلاق البشرية السوية، بدعوى الحرية الزائفة، وإنصاف المرأة ومنحها حريتها، بما يهدد العالم ببلاء عظيم، وفساد عريض.

إن ما يدعون إليه لهو في الواقع إهدارٌ لكرامة الإنسان التي أكرمه الحق بها، وفضَّله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً.

إنه تحطيم للقيم الدينية والاجتماعية والخلقية، يودي بالبشرية إلى التردي في حضيض الرذائل، والتلوث بالأمراض الخطيرة.

إنه قطعٌ لأواصر المودة في المجتمعات، وقضاء على الروابط الأسرية، والصلات الاجتماعية السوية التي لا قوام للبشرية إلا بها، فهل يتحقق تهيئة نشء صالح وجيل عامل ينهض بالأمة إلا في ظلال أسرة حانية كريمة.

إنَّ ما يدعون إليه قضاء على المرأة، وسلب لشرفها وعفتها، لتكون لعبة في أيدي العابثين وشرار الخلق المفسدين ( الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)[الشعراء:152] وفيه حرمان للمرأة من وضعها الطبعي الذي أراده الشارع لها، وهي أن تكون أمَّاً حانيةً، راعيةً لأجيالٍ صالحة.

وإنَّ ما يدعون إليه فضلاً عن مخالفته للشرائع السماوية، لممَّا تأباه العقول، وتشمئز منه النفوس، وتنفر عنه الطباع السوية، وتأنف منه الفطر السليمة( فِطْرَتَ الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيِّمُ ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون) [الروم: 30].

أيها المسلمون: إنه ما سعدت أمة، ولا أُكرم الرجل والمرأة بمثل ما جاءت به تعاليم الشريعة الإسلامية التي شرعها الحكيم الخبير الذي خلق الخلق، وركب فيهم الطبائع والغرائز، وشرع لكل من الجنسين من الأحكام، وجعل له من الخصائص ما يتلاءم وتكوينه الخَلْقي والنفسي، فهو سبحانه العليم بما فيه صلاح كل منهما، وإسعاده في المعاش وفي المعاد ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيفُ الخبير) [الملك: 14].

عجباً لأولئك أعداءِ الإسلام، بل أعداء الفضيلة، أيريدون من أمة دستورها القرآن، ونبراسها هدي سيد الأنام، أن تلعب بها الأهواء المنحرفة، وتنقادَ للدعوات المضللة، وقد هُدِيت بفضل الله ونعمته إلى أعدل الشرائع والأحكام، وأرقى الفضائل والأخلاق، أيريدون من أمة الإسلام أن تكون كما هم عليه من تفسخ خُلُقي، وتشتت أسري، وتفكك اجتماعي، لا دين يزعهم، ولا مروءة تمنعهم، ولا حياء يردعهم.

أيريدون للمجتمع البشري أن ينقلب إلى مجتمع يسوده الفسوق والعصيان، ويتواطأ أفراده على الإثم والعدوان، ويتمردوا على القيم والمكارم والأخلاق، اتباعاً للأهواء، وانقياداً للشهوات (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين)[القصص:50]، وقد جاء التنـزيل الكريم بالتحذير من اتباع الهوى، والتنديدِ به، وبيانِ ما يجره من أضرار عظمى، ومفاسد كبرى، ليس على البشرية فحسب، بل في الكون كله، كما قـال سبحانه: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون)[المؤمنون: 71]، وقال عز وجل: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً)[النساء: 27].

إن على أمة الإسلام من القادة والعلماء والدعاة، وحملة الأقلام والمفكرين، والهيئات والمنظمات الإسلامية أن يتصدوا لتلك الدعوات المضللة، والأهواء المنحرفة، والمؤامرات الماكرة التي تحاك ضد الإسلام وأهله، وأن يقفوا في وجه الباطل وأعوانه بشتى الوسائل، وعبر كل القنوات، حمايةً للدين، ورعايةً للفضيلة، وحفاظاً على الأمة من كيد الكائدين، وعبث المفسدين، قياماً بالواجب، وأداءً للأمانة، فإن الأمرَ خطير، والمسؤوليةَ جسيمة، والله عزَّ وجل سائل كلَّ راع عن رعيته، وكلَّ مسؤولٌ عن أمانته.

فاتقوا الله أيها المسلمون، واستمسكوا بدينكم، واعملوا على نصرته، والذودِ عن حياضه، وإعلاءِ كلمته، وافرحوا بهدايتكم إليه (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: 58].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه السادة الأكرمين، ومن سار على هديهم وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: إن العالم الإسلامي ليعيش في هذا الزمن في بلاء وامتحان لم يسبق لهما مثيل فيما مضي من العصور، فهو في ابتلاء مع أعدائه الحاقدين عليه، وفي ابتلاء مع أبنائه الجاهلين به، حتى أصبح الإسلام مهدداً في كثير من دياره، لا من أعدائه فحسب، بل حتى من بعض أبنائه في مختلف الأوطان، بما تسرب إلى قلوبهم وعقولهم من شبهات الأعداء، وما استولى على أفكارهم من عوامل الهزيمة والاستسلام، ولولا ما أصيب به المسلمون في عصوره المتأخرة من بلبلة فكرية، وفوضى ومفاسد أخلاقية، ونزاعات سياسية لما بلغت الأعداء من المسلمين ما بلغت، حتى شقت صفوفهم، وبددت وحدتهم، واقتطعت جزءاً من ديارهم، واستولت على كثير من خيراتهم.

وإنه لا مُنقِذ لأمة الإسلام، ولا خلاص لها مما هي فيه من فتن مُشرئبة، وأهواء متلاطمة، ومكائد أعداء حاقدة، إلا بالعودة إلى الإسلام الصحيح، واستلهام مبادئه الحقة، واتباع طرائقه وشرائعه النقية، فلن تصل الأمة إلى بَرِّ النجاة، ومرفأ الأمان إلا بذلك، ولن يتحقق لها العزة والكرامة، والأمن والسيادة إلا بتطبيق شرع الله على عباد الله، والحكمِ بينهم بما أنزل الله، ونبذ ما خالف ذلك من قوانين وضعية، ونُظُم بشرية، مخالفة لشرع الله القـويم (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)[المائدة: 50].

(أُلقيت خلال انعقاد مؤتمر المرأة ببكين، عام:1416هـ).

 

 

     الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرع لنا أفضل الشرائع والأحكام، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه العظام، ونعمه الجسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، سيد الأنام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام، ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم إلى يوم المعاد." data-share-imageurl="">