الحث على تحقيق الأخوة الإسلامية

 

الحمد لله الذي ألف بين قلوب المؤمنين، فجعلهم بنعمته إخواناً، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، طاعة وإخلاصاً، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، جمع الله به القلوب على التقوى، ودعى إلى المودة والإخاء، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأتقياء، وأصحابه الأوفياء، ومن سار على هديهم واقتفى.

أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى ربكم لعلكم تفلحون، واستمسكوا بدينكم، وافرحوا بهدايتكم إليه، «فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون»[يونس: 58].

عباد الله: كانت البشرية قبل بعثة رسول الهدى e لا سيما أمة العرب، في جاهليةٍ جهلاء، وضلالةٍ عمياء، وشقاءٍ مرير، يعبدون الأصنام والأوثان، ويتحاكمون للطواغيت والكهان. عَمَّ فيهم التقاطع والتدابر، وفشا بينهم العداء والبغضاء، والإحن والشحناء، لا رابطة تربط بينهم، ولا جامعة توحد صفوفهم، أو تؤلف بين قلوبهم، بل سلطانهم القهر والغلبة، والنهب والسلب، والاستبداد والاستعباد، حتى جاء الحق المبين، وانبلج نور الإيمان ببعثة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، فكانت بعثته رحمةً للعالمين، وهدى للناس أجمعين، وأشرقت الدنيا بدعوته ضياء وابتهاجاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، تجمعهم كلمة التوحيد، وتؤلف بين قلوبهم عقيدة الإيمان، ورابطة الإسلام، وقامت على وجه البسيطة دولة التوحيد،حاملةً لواء الإيمان، ومشعل الهداية والسلام، تحكم بشريعة عظمى لم يعرف التاريخ لها نظيراً، ولم تر البشرية لها مثيلاً ؛ لما امتازت به من سماحةٍ في التشريع، وعدالةٍ في الأحكام، وهدايةٍ إلى أفضل الأخلاق وأرقى الآداب.

وامتدت دولة الإسلام في أرض الله الواسعة، وانتشر سلطانها في أرجاء كثيرة من المعمورة، بفضل الله وتوفيقه، ثم بفضل المخلصين من أهل الإسلام، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، حتى استطاعوا أن يكسبوا المعارك التي خاضوها مع الأعداء، وأن يرفعوا راية الإسلام خفاقة في الآفاق، وأن يستولوا على كثير من البلاد شرقاً وغرباً في زمن قياسي مع ما كانوا عليه من قلة في العدد، ونقص في العتاد،  وما ذاك إلا بفضل الله تعالى، ثم بما كانوا عليه من تمسكٍ بالدين القويم، وعملٍ بالشرع المبين، وصدقٍ وإخلاصٍ في سبيل إعلاء كلمة الله، حتى أصبحت أمة الإسلام في قرون متطاولة مضت خيرَ الأمم شأناً، وأقواها نفوذاً، وأعزَّها سلطاناً، وتحقق لها وعد الله عز وجل بقوله: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)[الحج:40]، ولكن حينما ضعف تمسك المسلمين بالإسلام في أعقاب الزمن، وأعرض كثير منهم عن حقيقة الدين الحنيف، والشرع القويم، واستبدلوا التوحيد الخالص لله عز وجل بالبدع والمحدثات، والتعلق بغير الله تعالى من المخلوقين، ونبذ كثير منهم كتاب الله وراءهم ظهرياً، واستعاضوا عنه بقوانين وضعية، وأنظمة بشرية، واختلفوا وتنازعوا، أصبحت النكبة على أهل الإسلام نكبةً عظمى، والفاجعةُ فاجعةً كبرى، حيث استطاع الأعداء عندئذ النفوذ إلى أمة الإسلام، وتمزيقَ الدولة الإسلامية، حتى غدا أهل الإسلام شيعاً وأحزاباً، وممالك ودويلات، وتكالب عليهم الأعداء من كل جانب، وتحكموا في كثير من قضاياهم، وسيطروا على معظم مصالحهم، واستولوا على كثير من ثرواتهم ومقدراتهم، واستطاعوا احتلال بعض بلادهم، وفي مقدمتها الأرض المباركة فلسطين، حيث ترزح تحت الاحتلال الآثم منذ نصف قرن من الزمان، ومع ذلك لا يزال أولئك اليهود الغاصبون يواصلون مزيداً من العدوان في تلك البقاع المباركة، ويلحقون بأهلها أنواعاً من الظلم والاضطهاد، في عدوان ظاهر، وتحدٍّ سافر، غير عابئين بعهود، ولا ملتزمين بمواثيق ووعود «لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمةً» وهل يتأتى من أولئك الظالمين وفاء بعهد، أو التزام بوعد، أو تحقيق لسلام، وهم سلالة شر الخلق، ممن وصفهم الحق بقوله:«أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل» فكم نقضوا من عهودٍ أبرمت، ومواثيق أحكمت، عبر تاريخهم المليء بالخيانة والغدر، لا سيما مع أمة الإسلام، منذ عهد النبوة وحتى عصرنا الحاضر، كما هو واقعهم الآن «أو كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون».

وفي بلاد أخرى من العالم يتعرض المسلمون فيها إلى عدوان سافر من قبل الصرب الحاقدين، حيث تسلطوا على المسلمين بأقسى أنواع الاضطهاد بالقتل والتعذيب، والتشريد من الأوطان، وغير ذلك من  صنوف البغي والعدوان على إخوانكم هناك، امتداداً لما ارتكبوه في بلاد البوسنة من أفظع الجرائم، وأسوأ الحوادث في التاريخ المعاصر، مما يحَتِّم على أمة الإسلام أن تقف لصد هذا العدوان، بكل ما تملك من وسائل، قبل أن يستفحل الضرر، ويعظم الخطر على المسلمين في تلك البلاد.

وكم في بعض بلاد الإسلام من أحوال مؤلمة، وأوضاع محزنة، جراء ما حل بها من فتن عظمى، ومصائب كبرى، طال أمدها، وتفاقم خطرها حتى راح ضحيتها عشرات الألوف من الأنفس البريئة، وكل ذلك يحدث على مرأى ومسمع من العالم.

ومن عظيم الأسى أن يظل كثير من المسلمين في غفلةٍ أو تغافل عن تلك الأحداث المؤلمة، والمآسي المحزنة على أمة الإسلام.

عباد الله: إنه لن يعود للإسلام هيبته، ولا للمسلمين مجدهم وعزهم، ولن يرتفع عنهم الظلم والعدوان، والفتن والمصائب التي حلت بهم، إلا بالعودة الصادقة إلى دين الإسلام، واستلهام مبادئه الحقة، النقية من الشوائب، والسليمة من الدواخل، والاعتصام بحبل الله المتين، وتطبيق شرع الله على العباد، والحكم بينهم بما أنزل الله، وتحقيق الأخوة الإيمانية، والوحدة الإسلامية، التي عقدها الله عز وجل بين المؤمنين بقوله: (إنما المؤمنون إخوة)[الحجرات:10]، والأخذ بما أكد عليه رسول الله e ودعا أمته إلى تحقيقه واقعاً ملموساً على المستوى العام والخاص بقوله e: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى ها هنا ­ويشير إلى صدره e ثلاث مرات­ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه) رواه مسلم في صحيحه.

وفي الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).

فاتقوا الله أمة الإسلام وعليكم بالتمسك بدينكم، والعملِ على نصرته، وإعلاءِ شأنه، وتحقيق الإخاء والمودة فيما بينكم، تحقيقاً يحمل على نصرة المضطهدين، ومساندةِ المستضعفين، والدفاعِ عن قضايا المسلمين في كل مكان، فإن ذلك مما تفرضه الأخوة الإيمانية عليكم أيها المسلمون.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)[آل عمران:103].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وتذكروا عباد الله أن دين الإسلام قد عني ببث روح الأُلفة والإخاء في نفوس المسلمين، وتعميق هذا الشعور في قلوب المؤمنين، وإن ذلك ليبدو جلياً فيما فرض الحق سبحانه في كثير من العبادات، في الصلاة والزكاة والصيام وغيرها، إذ في كل عبادة من هذه العبادات مظهر من مظاهر الألفة والإخاء بين المسلمين، غير أن ذلك يبدو في وضوح أكبر وجلاء أظهر في فريضة الحج، فإنها من أعظم الفرائض، وأجل العبادات، التي تتجلى فيها معاني الأخوة الإسلامية بين أفراد الأمة في أسمى صورها، وأبلغ معانيها، إذ تجتمع الوفود المحتشدة من أقاصي الدنيا وأدناها في مجتمع إسلامي كبير يتكرر كل عام في هذه الرحاب الطاهرة، والمواطن المقدسة، حيث البيت الحرام، قبلة المسلمين، ومهوى أفئدة المؤمنين، مهبط الوحي، وموطن البعثة المحمدية.

تؤم الوفود المسلمة هذه البقاع المشرفة في هذه الأيام المباركة لأداء فريضة من أعظم فرائض الإسلام، تلبية لنداء خليل الرحمن، واقتداء بهدي سيد الأنام، صلوات الله وسلامه عليهما، قد اتحدت الأهداف من هذه الجموع المؤمنة، واتفقت منهم المقاصد والغايات، وتلاشت الفوارق والأجناس، وتصافت النفوس، وتآلفت القلوب، على تباين الديار، واختلاف الألسنة والألوان، الكل في هذه المواطن سواء، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، في مشاهد روحانية عظيمة، ومواقف إيمانية جليلة، تعلوهم الهيبة والخشية، وتجللهم السكينة والرحمة، إنها مواقف عظمى تزيد المؤمن إيماناً ويقيناً، وتوقظ في النفوس الشعورَ بأخوة الإسلام، فتندفع إلى العمل الجاد لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله.

وإنه لحري بأمة الإسلام أن تأخذ من هذه العبادة العظمى، -لا سيما من ذوي التأثير في الأمة- دروساً عملية في سبيل توحيد الصفوف، والعملِ على جمع الكلمة، والدفاعِ عن قضايا المسلمين، واستردادِ حقوقهم المستلَبة، وبلادِهم المغتصبة، والوقوفِ بجانب المستضعفين والمضطهدين، تحقيقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

 

المرفقالحجم
ملف 6الحث على تحقيق الأخوة الإسلامية.docx33.16 كيلوبايت
 

الحمد لله الذي ألف بين قلوب المؤمنين، فجعلهم بنعمته إخواناً، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، طاعة وإخلاصاً، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، جمع الله به القلوب على التقوى، ودعى إلى المودة والإخاء، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأتقياء، وأصحابه الأوفياء، ومن سار على هديهم واقتفى." data-share-imageurl="">