الحث على الكسب الحلال والتحذير من الحرام

 

 

 
   

الحمد لله الذي أنعم فأجزل، وأعطى فأغنى، وكل شيء عنده بمقدار، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه الغزار، وجوده المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الواحد القهار، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومن سار على هديهم، وسلك سبيلهم إلى يوم المعاد.

أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله حق تقاته، فإن تقواه سبحانه شعار المؤمنين، ودثار المتقين، ووصية الله للناس أجمعين، فاتقوا الله تعالى في كل ما تأتون وتذرون، واتقوا الله لعلكم تفلحون.

عباد الله: لقد جبل الله عز وجل الخلق على حب المال، وركَّب في الطباع الحرص على طلبه وتحصيله، لأن به قوام حياة الناس، وانتظام أمر معايشهم، وتمام مصالحهم، وقد جاء الشرع الحنيف بالحث على السعي في تحصيل المال واكتسابه، على أنه وسيلة لغايات محمودة، ومقاصد مشروعة، وجعل للحصول عليه ضوابط وقواعد واضحة المعالم، لا يجوز تجاوزها، ولا التعدي لحدودها، كي تتحقق منه المصالح للفرد وللجماعة.

وقد أوجب الشارع على المسلم أن يطلب المال، ويسعى في أسباب تحصيله، مما أذن الله به وشرعه من طرق الكسب الحلال، والعمل المباح، حتى يستغني المرء به عن ذل السؤال للغير، والحاجة للخلق، فطلب الرزق وتحصيله شرف للمؤمن، وعزة للمسلم، به تصان الأعراض، وتحفظ الكرامة، وبه يستعان على كثير من أعمال البر والطاعة، فنعم المال الصالح للمرء الصالح، يقول الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "يا حبذا المال أصون به عرضي، وأرضي به ربي".

الكسب الطيب والمال الحلال ينير القلب، ويشرح الصدر، ويورث الطمأنينة والسكينة والخشية من الله، ويعين الجوارح على العبادة والطاعة، ومن أسباب قبول العمل الصالح، وإجابة الدعاء.

أما الكسب الخبيث، فإنه شؤم وبلاء على صاحبه، بسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضب الجبار، ويمنع إجابة الدعاء.

المال الحرام مستخبَث الأصول، ممحوق البركة والمحصول، إن صرفه صاحبه في برٍ لم يؤجَر، وإن بذله في نفع لم يُشكر، ثم هو لأوزاره محتمِل، وعليه معاقب.

قال بعض الحكماء: "شر المال ما لزمك إثم مكسبه، وحُرِمتَ أجر إنفاقه"، وفي الحديث عند الطبراني وغيره أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له النبي e: (يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتَقَبَّلُ منه عمل أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)، وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله e ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يارب يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)، فلقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة إلى ربه، ما يدعو إلى رثاء حاله، ويؤكد شدة افتقاره، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحرم نفسه من مدد الله وفضله، وحال بينه وبين قبول دعائه ما هو عليه من استعمال للحرام في المأكل والمشرب والملبس.

وماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحُجب دعاؤه، وحيل بينه وبين رحمة الله!.

ولذا كان السلف الصالح في غاية الخوف من أكل الحرام، والمبالغة في التحذير منه، حتى قال بعضهم: " لو قمتَ في العبادة قيام السارية ما نفعك ذلك حتى تنظر فيما يدخل بطنك". وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام، فجاء له يوماً بشيء فأكل منه، فقال له الغلام: أتدري ما هذا، فقال أبو بكر: وما هو؟ فقال: تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أُحسِن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر رضي الله عنه يده فقاء كل شيء في بطنه)، وفي رواية أنه قال: (لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، اللهم إني أبرأ إليك مما حملت العروق، وخالط الأمعاء)، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرب لبناً فأعجبه، فقال للذي سقاه: "من أين لك هذا؟ فقال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء، فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء"، وأوصت إحدى الصالحات زوجها، فقالت له: "يا هذا اتق الله في رزقنا فإنا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار".

وإن من العجب أن يحتمي بعض الناس من الحلال مخافة المرض، ولا يحتمون من الحرام مخافة النار، وما ذاك إلا لقسوة القلوب، واستيلاء الغفلة على النفوس، وضعف الإيمان، وقلة البصيرة في الدين.

عباد الله: إن للمكاسب المحرمة آثاراً سيئة على الفرد والمجتمع، فإنها تُضعف الديانة، وتُعمي البصيرة، ومن أسباب محق البركة في الأرزاق، وحلول المصائب والرزايا، وحصول الأزمات المالية المستحكمة، والبطالة المتفشية، وانتشار الإحن والشحناء، والعداء والبغضاء.

وإن مما يؤسى له عظيم الأسى أن في الناس من لا يتحاشون عن اكتساب المال الحرام وتحصيله من أي طريق، وعبر أي وسيلة، إذ ليس لهم همٌّ إلا تكديس الأموال، وتضخيم الثروات، فالحلال في عرفهم ما قدروا عليه، والحرام ما تعذر وصولهم إليه، يسلكون في طلبه مسالك معوجة، وسبلاً مشبوهة، بل وقد لا يكترثون من المجاهرة بالمكاسب الخبيثة، والاستيلاء على الأموال المحرمة التي لا شبهة في تحريمها، حتى أصبح هذا المسلك المشين لشيوعه وانتشاره ظاهرة مألوفة في كثير من مجتمعات المسلمين، حيث فشا فيها أكل الربا، وتعاطي الرشوة، والغصب والسرقة، والمتاجرة بالمحرمات، كالخمور والمخدرات، وآلات اللهو والغناء ونحوها، وتطفيف المكاييل والموازين، والغش والخداع في البيوع والمعاملات، وإنفاق السلع بالأيمان الفاجرة، وأكل أموال اليتامى والقاصرين، والاستيلاء على الحقوق والممتلكات، واختلاس الأموال الخاصة والعامة بأساليب مختلفة، وسبل متنوعة بلا خوف من الله، ولا حياء من عباد الله، في صور مهينة من صور البطر والأشر، والجشع والطمع لدى بعض النفوس حين يضعف فيها وازع الإيمان، وتتحلل من المروءة ومكارم الأخلاق.

وإنه ليكاد يصدق على هذا الزمان ما جاء في الحديث عند البخاري وغيره أن رسول الله e قال: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام)، فأين هؤلاء عن قوارع التنـزيل التي تتلى، والأحاديث التي تروى في التحذير من أكل الحرام وبيان عاقبة صاحبه، وسوء مصيره ومنقلبه.

أليس لهم فيها مدَّكَرٌ وواعظ!، ومزدَجَرٌ ورادع! (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)[محمد: 24].

 يقول الحق جل وعلا في التحذير من الربا: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)[البقرة:278- 279]، ويقول عز شأنه في بيان ما أعد من العذاب لأكَلة أموال اليتامى: ( إنَّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)[النساء:10]، ويقول جل وعلا متوعداً أهل التطفيف للمكاييل والموازين: (ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون،  ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين)[المطففين:1-6].

وفي الحديث عن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه: أن رسول الله e قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك). رواه مسلم في صحيحه. وروى أيضاً عن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله e يقول:  (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة)، والله عز وجل يقول: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)[آل عمران:161]، فاتقوا الله عباد الله ولتجتنبوا ما حرم ربكم عليكم ونهاكم عنه من المكاسب الخبيثة والأموال المحرمة، ولتقنعوا بما أحل لكم من الطيبات، ففي الحلال الغُنية والكفاية، والسعادة في الدنيا والآخرة.

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك يا واسع الفضل والإحسان يا أكرم الأكرمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون)[البقرة:172].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أن من دلائل التوفيق، وأمارة السعادة والفلاح للعبد، أن يكف عما حرم الله من المكاسب الخبيثة، وما نهى عنه من الأموال المحرمة، وأن يتورع عما يشتبه عليه من ذلك، حرصاً على سلامة دينه، وصيانةِ عرضه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) رواه البخاري ومسلم. وروى الترمذي وابن ماجه عنه e أنه قال: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس)، وقال الإمام الحسن البصري رحمه الله: " مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام ".

ولتعلموا عباد الله: أن المشتبهات يحصل للقلوب عندها قلق واضطراب، يحمل على الشك والتردد في حلها، والوَرِعُ من عباد الله يكون وقَّافاً عند المشتبهات، فيدع ما يريبه إلى مـا لا يريبه، فذلك مسلك الصالحين، ونهج المتقين، فاتقوا الله أيها المؤمنون، ولتستطيبوا مطاعمكم ومشاربكم، وسائرَ مكاسبكم (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون )[البقرة:281].

 

 

 

 
   

الحمد لله الذي أنعم فأجزل، وأعطى فأغنى، وكل شيء عنده بمقدار، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه الغزار، وجوده المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الواحد القهار، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومن سار على هديهم، وسلك سبيلهم إلى يوم المعاد." data-share-imageurl="">