الأمانة

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنَّ علينا باتباع شريعة خير الأنام، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأمناء الأكرمين، ومن سار على هديهم، وسلك سبيلهم إلى يوم الدين .

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، وتذكروا عباد الله: أنه لا سعادة للمرء في الدنيا، ولا فوز له في الأخرى إلا في ظل التمسك بأهداب الدين القويم، والعمل بشرع الله المبين، والقيام بأمانة التكاليف الشرعية حق القيام، والالتزام بها على الدوام، في كل مجال، وعلى كل حال .

أيها المؤمنون: إن الأمانة شأنها عظيم، وأمرُها في الإسلام جليل، إذ بها تحفظُ حرماتُ الله، وتصانُ حقوقُ عباد الله، إنها صفةٌ عظيمة، وخلةٌ كريمة، لا يقوى على حملها إلا المتقون الأبرار، الصادقون الأخيار، المجاهدون لأنفسهم في ذات الله، المراقبون له في السر والإعلان، كما جاء وصفهم بذلك في محكم التنزيل، فقد قال سبحانه في معرض تعداد صفات المؤمنين(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)  [المؤمنون:8].

ولقد عرض الله U الأمانة على أعظم مخلوقاته فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان مع ظلمه لنفسه، وجهله بعاقبة تفريطه في حقها، يقول سبحانه: ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً) [الأحزاب:72].

فمتى حقق المرءُ الاتصاف بالأمانة، وسرت هذه الفضيلة في نفسه وروحه، وظهر أثرها على أعماله وتصرفاته، كان ذلك عنوان صلاحه وتقواه، وزكاء نفسه، وطهارة قلبه، وحسن سريرته، ولقد كان الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم في القمة بين البشر بحمل الأمانة، والاتصاف بها حقاً وصدقاً، فهم أعظمُ الناس تكليفاً بها، وأقواهم لها حملاً، وقياماً بواجباتها ومقتضياتها، فقد اصطفاهم الله وشرفهم بحمل رسالاته، وتبليغ دينه، وكان رسول الهدى r  مجبولاً عليها منذ صغره، مشتهراً بها عند قومه، حتى لقبوه بالأمين قبل أن يوحى إليه، صلوات الله وسلامه عليه .

أيها المسلمون: إن الأمانة في الإسلام، ذاتُ دلالات واسعة، ومعانٍ متعددة، فهي شاملةٌ للتكاليف الشرعية، والأوامر الإلهية، سواءٌ أكانت بين العبد وربه، أو بينه وبين أسرته، أو بينه وبين مجتمعه.

وإنّ حقيقة الأمانة تتمثل في استشعار المرء المسؤولية فيما كلِّف به أو وكل إليه من الأعمال، سواءً أكان دينياً أو دنيوياً، وإدراكه أنه محاسب عنه أمام ربه U، فيحمله ذلك الشعورُ على القيام بأمانة التكاليف حقَّ القيام، والاهتمام بأدائها دون تقصير أو إخلال .

وإن في طليعة الأمانات التي يجب أداؤها إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وتجريد المتابعة لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، والمحافظة على أداء العبادات التي افترضها اللهُ U  من صلاة وزكاة وصيام، وحج إلى بيت الله الحرام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وبرٍ بالوالدين، وصلة للأقارب والأرحام، فكل هذه وغيرُها من العبادات التي افترضها المولى على عباده أماناتٌ عظيمة، يجب أداؤها كما فرضها الله U  بكل صدقٍ وإخلاص، ودون تهاونٍ أو تكاسلٍ .

ومن الأمانة يا عباد الله حفظ العبد للجوارح التي أنعم الله بها عليه، واستعمالُها في طاعة الله ومرضاته، والحذرُ من استعمالها فيما يسخطُ الله U  ويغضبُه؛ من الذنوب والمعاصي، والفواحش والآثام، فإنّ استعمالها في معاصي الله إخلالٌ بالأمانة، يورثُ الحسرة والندامة، ويوجب الخزيَ والعذابَ يوم القيامة، يقول سبحانه: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) [النور:24-25].

أيها المسلمون : إن على أرباب الأسر أمانة كبيرة، فعليهم مسؤولية رعاية أسرهم حقَّ الرعاية، والعناية بشؤون أفرادها من الأزواج والبنين والبنات وغيرهم ممن يلونهم، وتحصينهم بالحصانة الشرعية، وتنشأتهم النشأة الدينية التي تكون سبباً في سعادتهم في الدنيا والآخرة، وتربيتهم على الأخلاق الإسلامية، والمثل الكريمة، وحفظ أسرارهم، لاسيما ما يحدث بين الزوجين من الأحاديث، وما يفضي به أحدُهما إلى صاحبه، فإنَّ إشاعته والتحدث به نوعٌ من أنواع الخيانة، وقد جاء النهي عن ذلك فيما رواه مسلمٌ في صحيحه عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله r : « إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرَّها » .

ومن الأمانة حفظُ سر من ائتمنك على سره من صديق أو قريب، وكتم أحاديث المجالس وما يقال فيها من أسرار، إلا ما كان فيه ضررٌ بفردٍ أو مجتمع، فيجب إظهاره وبيانُه نصحاً للأمة .

ومن الأمانة ما يضع الناس من ودائع لدى بعضهم البعض، للثقة المتبادلة بينهم، فيجب حفظُها، والعناية بها، وردُها إلى أهلها عند طلبها، دون مماطلة أو تأخير، فقد قال U ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) [النساء: 58 ].

أيها المسلمون: إن على ولاة أمور المسلمين من الأمانات ما ليس على غيرهم بما كلفوا به من أعمال عظيمة، وما حملوا من أمانات جسيمة، فعليهم تفقدُ أحوال الرعية، والقيامُ على شؤونهم، ورعايةُ أمورهم، والنصح لهم، وتطبيق شرع الله فيهم، والحكم بين الناس بالعدل والقسط، عملاً بقوله سبحانه: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمَّا يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا) [النساء: 58 ].

أما الرعية فمن الأمانة عليهم السمعُ والطاعة لولاة الأمور، وامتثال أوامرهم، والحذرُ من مخالفتهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لهم في أمر المعصية على وجه الخصوص، مع وجوب السمع والطاعة لهم فيما عدا ذلك، ومن طاعتهم طاعة نوابهم على الأعمال في مختلف المصالح والمرافق في البلاد، فإنه لا تتم مصالحُ الأمة، ولا انتظام لأمورها الدينية والدنيوية إلا بالسمع والطاعة، يقول  U : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ) [النساء: 59 ].

عباد الله: إن من آكد مظاهر الأمانة في المسلم أداء ما كلف به من عمل، على أكمل وجه أريد منه، إتقانٌ للعمل، ومحافظةٌ على وقته، وعدمُ تضييعه في غير مصلحة العمل، وإنجازُ الأعمالِ في أوقاتها، وعدمُ تأخيرها، لاسيما ما يتعلق منها بالآخرين، ويحدثُ تأخيرُها إلحاق ضرر بهم، فإنَّ كل ما يحصل على الغير من ضررٍ أو أذى بسبب إهمال موظفٍ، أو تفريط عامل، فإنَّ إثم ذلك ووزره يقعُ على من كان سبباً في حدوث ذلك الأذى، أو حصول ذلك الضرر .

ومن الأمانة في جانب العمل أن لا يستغل صاحبُ سلطةٍ أو منصبٍ جاهه ونفوذه في جر مغنمٍ لنفسه، لاسيما إن ترتب على ذلك إلحاقُ ضرر بالمصلحة العامة، كمن يستغل سلطته بالاستيلاء على شيء من الأموال العامة أو الخاصة، أو تناول رشوة، أو ما يبدوا أنها هدية، وهي في واقعها رشوةٌ، ويتأولُ لاستحلالها بتأويلات باطلة، فإنّ ذلك مظهرٌ من مظاهر الخيانة، وأمارةٌ من أماراتِ الإخلال بالأمانة، فلقد حرم الإسلامُ أخذَ شيء من الأموال بتلك الطرق والأساليب، ونهى عن ذلك النهي الشديد، وتوعد فاعله بالعذاب الأليم .

فقد قال -عليه الصلاة والسلام- في النهي عن أخذ شيءٍ من الأموال الخاصة بغير حق «من اقتطع حقَّ امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللهُ له النار وحرَّم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن  كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: وإن كان قضيباً مِنْ أراك » رواه مسلم في صحيحه .

أما الاستيلاءُ على شيء من الأموال العامة، فقد عد رسولُ الهدى r أخذَ شيء منها بغير وجه شرعي غُلولاً،  كما في الحديث الذي رواه مسلمٌ عن عدي بن عميرة t قال: سمعتُ رسول الله r يقول : « من استعملناه منكم على عملٍ، فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة » وقد قال الله U : ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) [ال عمران: 161 ].

وروى البخاريُ ومسلم عن أبي حميد الساعدي t قال: « استعمل النبي r رجلاً على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إليَّ، فقام رسولُ الله r على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولَّاني اللهُ فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هديةٌ أهديت إليَّ، أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه حتى تأتيه هديتهُ إن كان صادقاً، والله لا يأخذُ أحدٌ منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحملُه يوم القيامة .. ».

عباد الله: لقد ضعفت الأمانةُ في نفوس الكثيرين منا، وما ذاك إلا لقسوة القلوب، وغلبةِ الهوى، وضعف الإيمان، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمدُ وغيرُه عن أنس بن مالك t أن رسول الله r قال: « لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دينَ لمن لا عهد له ».

وإن من مظاهر ضعف الأمانة ما يرى في كثيرٍ من المجتمعات من انتشار الكذب والخيانة، وإخلاف الوعود، وعدم الوفاء بالعهود، وكثرة الغش والخداع، والتدليس في المعاملات، والاعتداء على حقوق الآخرين، ومنعهم حقوقهم، أو عدم إيصاله إليهم إلا باقتطاع جزءٍ منه، وكلُّ ذلك خلافُ مقتضى الأمانة، وأمارةٌ من أمارة الخيانة، وظلمٌ وعدوان، وقد توعد اللهُ U الظالمين بقوله: ( و لاتحسبن الله غافلاً عمَّا يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء) [إبراهيم:42-43].

فاتقوا الله عباد الله، وتحلوا بالأمانة في أقوالكم، واتصفوا بها في أعمالكم، تكتب لكم السعادةُ في الدنيا، وتفوزوا بالنعيم المقيم في الأخرى .

أعوذ الله من الشيطان الرجيم : (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)[الأنفال:27].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

 

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمد سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، نبيه المجتبى، وحبيبه المصطفى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، أئمة الهدى، ونجوم الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم لعلكم تفلحون، وتذكروا: أن من أعظم الأمانات شأناً، وآكدها رعايةً واهتماماً، القيام على النشء بحسن التوجيه والتعليم، فإنها أمانة عظمى، ومسؤولية كبرى تقع على عاتق المربين، ورجال التربية والتعليم في العناية بتربية النشء على الأخلاق الإسلامية، وربطِ العلوم والمعارف بالروابط الإيمانية، حتى تكون العلومُ قائدةً إلى الإيمان، وعاملةً على إصلاح الأنفس، وتهذيب الأخلاق، فإنه لا فائدة من علمٍ لم يكس بحلة الإيمان، ولا جدوى من تربية لا تثمر صالح الأعمال.

أما أهلُ الفكر، وحملةُ الأقلام، ورجالُ الصحافة والإعلام، فعليهم تقعُ أمانة الكلمة الصادقة، والفكرة السليمةُ البناءة، ونقلُ الخبر الصحيح المطابق للواقع، فهم مؤتمنون على ما يطرحون من أفكار وقضايا، وما ينقلون من أخبار تخدمُ مصالحَ الأمة، وتهمُ المجتمعات المسلمة، فيجب أن يوزن جميعُ ذلك بميزان الشرع المبين، وأن لا يقدموا للأمة إلا ما يتفق مع عقيدتها الصحيحة، وفطرتها السليمة، وأخلاقها السوية، حفاظاً على المجتمعات الإسلامية من الأفكار المنحرفة، والاتجاهات الباطلة، والأخبار المغرضة الكاذبة التي تحدث إشاعتها فوضى كلامية، وبلبلة فكرية، ألا فليتق الله تعالى كلُ منا أيها المؤمنون حق التقوى، وليؤد ما ائتمن عليه بكل صدقٍ وإخلاص، فإنَّ المسؤولية جسيمة، والأمر عظيم، والمحاسب غداً عليم خبير، لا تخفى عليه من أعمالكم خافية  (يعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور) [التغابن:4].

 

المرفقالحجم
ملف 23الأمانة.docx37.1 كيلوبايت
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنَّ علينا باتباع شريعة خير الأنام، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأمناء الأكرمين، ومن سار على هديهم، وسلك سبيلهم إلى يوم الدين ." data-share-imageurl="">