التحـذير من النفـاق

 

الحمد لله العليم الخبير، يعلم ما تسرون وما تعلنون، وهو عليم بذات الصدور، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الصادقين، ومن سار على هديهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى ربكم حق تقاته، وأخلصوا له الدين وحده، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

عباد الله: حينما بُعث رسول الهدى e، وأشرقت الدنيا برسالته ضياءً وابتهاجاً، آمن به من آمن ممن كتب الله لهم الهداية والسعادة، وآزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، وأعرض عنه قومٌ آخرون ممن كتب الله عليهم الشقاء والضلال، فكفروا به وبما جاء به من عند الله، فكان الناسُ في العهد النبوي بمكة فريقين، منهم المؤمن الصادق في إيمانه، ومنهم الكافر المعلن كفره وضلاله، حتى إذا ما هاجر e  إلى المدينة، وأسَّس بها دولة الإسلام، وأعزَّه الله ونصره ومن اتبعه من المؤمنين، شَرِق أعداء الإسلام بانتشار نور الإيمان، وجزعوا من عموم هدايته للأنام، فتخلل بين صفوف المسلمين من أظهر الإسلام وأبطن الكفر، بقصد القضاء على الإسلام وأهله، وإطفاء نوره (ويأبى الله إلا أن يُتِمَّ نورَه ولو كره الكافرون)[التوبة:32]، فكاد أولئك المنافقون للمسلمين المكائد، وتربصوا بهم الدوائر، وكم هموا بما لم ينالوا، فحفظ الله تعالى نبيه والمؤمنين من كيدهم ومكرهم (ومكروا ومكر الله والله خيرُ الماكرين)[آل عمران:54].

اتصف أولئك المنافقون بحسن الظاهر، فإن رُؤوا أعجبوا، وإن قالوا أحسنوا، إلا أنَّ بواطِنَهُم انطوت على الكفر والضلال، وامتلأت نفوسُهم من الغِلِّ والأحقاد على الإسلام وأهله (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون)[المنافقون:4].

آثروا الضلالة على الهدى، والكفر على الإيمان، والحياةَ الدنيا على الآخرة، فبئس ما يصنعون (أولئك الذين اشتروا الضلالةَ بالهدى فما ربحت تجارتُهم وما كانوا مهتدين)[البقرة:16]، كان ذلك مسلكَ أولئك المنافقين، وديدنَ أولئك المفسدين، كما أفصح عنهم بذلك القرآن الكريم، ولم يكن ذلك المنهجُ قصراً على ذلك الجيل من المنافقين الذين عاصروا الوحي، وشاهدوا بزوغ شمس الحق، بل هذه سمةُ أهل النِّفاق، ومسلكُ أهلِ الفساد في كل زمان، قد انقلبت موازين الأمور عندهم، وانعكست مقاييسها في نفوسهم، وتغلغل الشرُّ في قلوبهم، فأعماهم عن الحق، وأضلَّهم عن الهدى، زاعمين أنَّ ما هم عليه هو عينُ الصلاح، وروحُ الإصلاح، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في كل زمان ومكان في عناء وبلاء.

أيها المسلمون: إنَّ النفاقَ داءٌ عُضال ومرضٌ خطير، وشرٌّ مستطير، وبلاءٌ عريض، إنه أُسُّ الرَّذائل، ومجمع المساوئ، ما حلَّ في نفس إلا كان دليلاً على سوء الطوية، وانحطاط الهمة، وسقوط المنـزلة عند الله وعند الخلق، ولا فشا في مجتمع إلا كان نذيرَ شؤمه وبلائه، وسبيلَ زواله، ولقد جاء في القرآن الكريم وعلى لسان سيد المرسلين e وصفُ أمارات النفاق، وكشفُ أسرار المنافقين، وهتكُ أستارهم، وتجليةُ صفاتهم، ليكون أهل الإيمان منها ومن أهلها على حذر، ذلك أن بليةَ الإسلام بهم أعظمُ بلية، ومصيبتَهم على الإسلام أرزأُ مصيبة، لأنهم منسوبون إلى الإسلام وأهله، وهم في الحقيقة أعداؤه وخصومه.

ألا وإنَّ من علامات المنافقين التي أفصح عنها القرآن الكريم أنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ولا يشهدون الجماعة إلا رياءً، ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ولا ينفقون إلا وهم كارهون، يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ويَسْخَرُون بالصالحين، ويستهزئون بالمتقين، ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب المفسدين، كما جلَّى رسول الهدى e لأمته أخلاقَهم، وأسفر عن أوصافِهم نُصحاً للأمة وتحذيراً، فقال عليه الصلاة والسلام: ( أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها، إذا ائتُمن خان، وإذا حَدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر). رواه البخاري ومسلم، ولهما أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله e: آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان). زاد مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم).

فهذه أوصاف أهل النفاق الأكبر المخرج لصاحبه عن دائرة أهل الإيمان ممن أبان الحق سبحـانه عن جزائهم ومصيرهم بقوله: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً)[النساء:145].

وهناك أيها المؤمنون نفاق آخر، وهو العمل بشيء من أخلاق المنافقين، والتلبسُ ببعض صفاتهم المنافيةِ لصفاء الدين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ومن كانت فيه خصلةٌ منهن - يعني صفات المنافقين - كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها). فإنَّ هذا النوع من النفاق من أكبرِ المعاصي وأعظمِ الذنوب، وهو وإن لم يُخرِج صاحبه عن دائرة الإسلام، إلا أنه يُخشى على المرء إذا ما أصَرَّ عليه وأكثر من الاتصاف به، والتخلق بأخلاقه، أن يُسلب منه الإيمان، ويصيرَ منافقاً خالصاً.

ومَرَدُّ هذا النوع من النفاق يعود إلى اختلاف علانية المرء وسريرته، إذْ يُبدي علانيةً صالحة، ويبطن ضدَّها، يُظهر الصدقَ وهو كاذبٌ، ويدَّعي الأمانةَ وقد نوى الخيانة، ويتظاهر بالخشوع في عباداته، وقلبُه ساهٍ غيرُ خاشع، وغيرُ ذلك من أعمال المرائين، وأخلاق المنافقين.

قال الإمام الحسنُ البصري رحمه الله: "كان يقال: النفاق اختلاف السر والعلانية، والقولِ والعمل، والمدخلِ والمخرج"، وكان من دعاء بعض السلف قوله: "اللهم إني أعوذ بك من  خشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يُرى البدنُ خاشعاً والقلبُ ليس بخاشع".

ألا وإنَّ من عظيم الأسى يا عباد الله ما يُرى في كثير من المجتمعات الإسلامية اليوم من مظاهر النفاق وعلامات المنافقين، وعمومِ البلاء فيه، في كثير من المنتسبين للإسلام، حتى تعدى عامة الناس إلى بعض المنتسبين للعلم، والمتظاهرين بالصلاح، فكم بيننا أيها المسلمون ممن لا يتورع عن الكذب في أقواله وأخباره، وإشاعةِ الأقوال المختلَقة، وترويجِ الأخبار المغْرِضة، بقصد الإساءة إلى فرد أو جماعة، وكم ممن تلبس بالغش والخداع، والمكرِ والتدليس في المعاملة، حتى أصبح لا يؤمَنُ جانبه، ولا يُطمئنُ إلى معاملته، ولا يُوثَق بأقواله، إنه لا يبالي أن يُخلفَ وعداً، أو ينكُثَ عهداً، أو يخونَ أمانة، وكم هنالك ممن يحاول خِداع النَّاسِ بحسنِ كلامه، ورقة حديثه، ولطافةِ خُلُقِه، يُظهر للآخرين النصحَ والأمانةَ، والصِّدق والمودة، ولكنه بخلاف ما يُظهر، وعلى عكس ما يبدي، قد امتلأ قلبه غيظاً وحقداً، وحسداً وغِلاً، ونفاقاً ومراوغة، يبيع دينه بعرض من الدنيا، ويهدر كرامته في سبيل نيلِ غرضٍ شخصيٍّ، أو مصلحة دنيوية زائلة، غير عابئ بعظيم جرمه، وقبيح صنعه.

أنسيَ أولئك أو تناسوا أنَّ الله تعالى مطلَّعٌ على السرائر وما تخفي الصدور، وسيجازي كلاً بما عمل على وفق نيته وقصده.

فاتقوا الله عباد الله، واتصفوا بصفات أهل الصِّدق والإيمان، ولتحذروا أخلاق أهل النفاق والرياء، ولتُعنَوا بإصلاح النفس وتزكيتها بالإيمان وصالح الأعمال، والارتقاء بها إلى مصافِّ المتقين الأبرار، الذين وعدهم الحق بأحسن جزاء، وأكرم مآل.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويَقْبِضُون أيديَهم نَسُوا الله فنسيَهم إنَّ المنافقين هم الفاسقون،وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنَّم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذابٌ مقيم)[التوبة:67-68].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أسعد بجواره من أطاعه واتقاه، وقضى بالذل والهوان على من خالف أمره وعصاه، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ فضله ونعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وأخلصوا له في السِّر والنجوى، ولتحذورا عباد الله من النفاق، ولتكونوا منه على خوف ووجل، فلقد خاف النفاقَ على أنفسهم خيارُ هذه الأمة وصفوتُها، من أصحاب رسول الله e، ومَن بعدهم من أئمة الإسلام، وأهلِ الصلاح والتقوى، حتى قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: "ما خاف النفاق على نفسه إلا مؤمن، ولا أمنه على نفسه إلا منافق". وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه صاحبَ سرِّ رسول الله e وقال له: "ناشدتك الله، هل عدَّني لك رسول الله e في المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكِّي أحداً بعدك".

وروى البخاري في صحيحه عن ابن أبي مُليكة قال: "أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله e كلُّهم يخاف على نفسه النفاق". فإذا كان هؤلاء المتقون الأبرار، والصفوة الأخيار من هذه الأمة، يخشون النفاق على أنفسهم، فإن غيرهم من الناس لا سيما في أعقاب الزمن أولى بالحذر منه، والخشيةِ من الاتصاف بشيء منه.

فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا لله أعمالكم، وأحسنوا له القصد والعمل، فإنَّ الجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد، يقول عز شأنه: (يوم تجد كلُّ نفسٍ ما عَمِلتْ من خير مُحْضَراً وما عَمِلتْ من سُوء تود لو أنَّ بينها وبينه أمَداً بَعيداً ويُحَذِّرُكم الله نفسه والله رؤوفٌ بالعباد)[آل عمران:30].

المرفقالحجم
ملف 31التحـذير من النفـاق.docx35.67 كيلوبايت
 

الحمد لله العليم الخبير، يعلم ما تسرون وما تعلنون، وهو عليم بذات الصدور، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الصادقين، ومن سار على هديهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">