موقف المسلم عند تأزم الفتن

 

 الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقاته، فإن في تقواه عز وجل العصمةَ من الضلالة، والسلامةَ من الغواية، والأمنَ من المخاوف، والنجاةَ من المهالك، ومن حقق التقوى آتاه الله نوراً وضياءً، يفرق به بين الضلالة والهدى، والبصيرة والعمى، كما قال جل وعلا: يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم )[الأنفال:29].

فاتقوا الله عباد الله، واستقيموا على شرعه القويم، والتزموا صراطه المستقيم، الذي لا يضل سالكه ؛ لأنه طريق واضح لا لبس فيه، ومستقيم لا التواء فيهوأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السُّبُلَ فتَفَرَّقَ بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)[الأنعام:153]، فصراط الله المستقيم هو كتابه الكريم، وهدي رسوله الأمين، الذي سار عليه، وربَّى عليه أصحابه، ووجه أمته إلى السير عليه، والعمل على وفقه في الاعتقاد والعمل، دون غلو ولا جفاء، ومن غير إفراط ولا تفريط، وإنما وسط واعتدال، كما قال عز وجل: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)[البقرة:143]، وتلك فضيلة عظمى، امتازت بها شريعة الإسلام الحنيفية السمحة، وهو الحق والعدل الذي يجب أن يسلك وينهـج، كما قال سبحانه:  (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير)[هود:112].

وإن من صدق الإيمان ودلائل التوفيق يا عباد الله: أن يستقيم المرء على دين الله وشرعه أيام حياته، وعلى كل حالاته، في

كما أنه عليه الصلاة والسلام قد أخبر بما يكون في الأمة بعده إلى قيام الساعة من تفرق واختلاف، ونزاع وشقاق، ينشأ عنه فتن عظمى، ومحن كبرى، يوقد نارَها، ويذكي جذوتَها أعداءٌ متربصون، وكفرةٌ حاقدون، أو جهلةٌ قاصرون، منحرفون عن منهج الحق والعدل، فتتأجج نار الفتن في الأمة، وتشتد ضراوتها، ويستشري ضررها، ويتفاقم خطرها، ويجل خطبها، وتلتبس عندئذ كثير من الحقائق، وتختلط كثير من المفاهيم، وتختل الموازين، ويهلك بسببها خلق كثير، ويحتار جراءها ذوو العقول والبصائر، وهكذا شأن الفتن إذا عظمت في الأمة، كما وصفها بذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: "تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية، فتزيغ قلوب بعد استقامة، وتضل رجال بعد سلامة، وتختلف الأهواء عند هجومها، وتلتبس الآراء عند نجومها، من أشرف لها قصمته، ومن سعى فيها حطمته، تغيض فيها الحكمة، وتنطق فيها الظلمة، وتثلم منار الدين، وتنقض عقد اليقين، تهرب منها الأكياس، وتدبرها الأرجاس، مرعاد مبراق، كاشفة عن ساق، تُقَطَّع فيها الأرحام، ويفارق عليها الإسلام".حال السراء والضراء، وفي حال الشدة والرخاء، فيكون عابداً شاكراً لله في حال السَّراء، وصابراً محتسباً في حال الضراء، ملتزماً نهج رسول الهدى e الذي سار عليه، ووجه أمته إليه، إذ ما من خيرٍ إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرٍّ إلا حذرها منه، ولم ينتقل e إلى الرفيق الأعلى حتى أكمل الله تعالى به الدين، وأتم به النعمة على الخلق أجمعين، حتى ترك أمته على المحجة البيضاء الواضحة للسالكين، والبينة للناهجين، لا يزيغ عنها إلا من كان من الهالكين.

ثم يوجه رضي الله عنه بعد ذلك إلى اجتناب الفتن، فيقول: "فلا تكونوا أنصاب الفتن، وأعلام البدع، والزموا ما عُقد عليه حبلُ الجماعة، وبنيت عليه أركان الطاعة، واقدموا على الله مظلومين، ولا تقدموا عليه ظالمين، واتقوا مدارج الشيطان، ومهابط العدوان " انتهى كلامه رضي الله عنه.

فما أعظمه من وصف بليغ، وبيان دقيق، لحقيقة الفتن وواقعها، وما أجلها من نصائح صدرت من قلب امتلأ إيماناً ويقيناً، وبصيـرة وعلماً، ابتلي بالفتن فخبرها، واصطلى بنارها فصبر عليها، وأبلى بلاء عظيماً في القضاء عليها، وسنَّ فيها للأمة سنناً باقيةً إلى أن تقوم الساعة.

وما تزال الفتن في الأمة يا عباد الله تظهر عبر عصور الإسلام بين الحين والآخر، حتى ابتليت أمة الإسلام بما يحدث الآن على الساحة العالمية من أحداث وتداعيات، وما أفرزته من فتن تلاطمت أمواجها، ومحن هاجت أعاصيرها، وطال بلاد الإسلام وأهل الإسلام منها عظيم الأضرار، وبالغ الأخطار، حتى تحيـر جراء ذلك ذوو الرأي والنهى، والعارفون بمجريات الأحداث، وعسر عليهم التنبؤ بما تؤول إليه الأحوال في مستقبل الأيام، واشتغل عامة الناس بالمتابعة والتحليل لما يسمعون ويقرؤن، واستغل المرجفون هذه الأحداث ببث الأكاذيب، واختلاق الأباطيل، وإشاعة الأراجيف بالتوقعات والتكهنات، التي لم تبن على حقائق ثابته، ولا تستند إلى معلومات موثقة، وإنما هي تخرصات وأوهام، تشيع في المجتمعات البلبلة، وتشغل الرأي العام بما لا طائل تحته.

 

وما هكذا يكون حال الأمة عند تأجُّج الفتن، ولا هكذا يكون شأن المسلم عند حلول المحن، فإن الواجب على أمة الإسلام في مثل هذه الأحوال أن تراجع دينها، وتصحح مسيرتها، وأن تحكِّم شرع الله على عباد الله في جميع الشؤون وعلى كل المستويات، وأن تعود إلى ربها، وتقبلَ على طاعته والإنابة إليه، وأن تكثر من الاستغفار والتوبة والتضرع إلى الله جل وعلا بأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يحفظ الإسلام وأهله من كيد الكائدين، وشر الأعداء المتربصين، فإن ذلك من أسباب تنـزل الرحمات الإلهية، والألطاف الربانية، وزوال الفتنة، وارتفاع البلاء عن الأمة، كما قال عز وجل: لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون )[النمل:46]، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله e قال: (تكون فتنة لا ينجي منها إلا دعاء كدعاء الغَرِق). رواه ابن أبي شيبة والحاكم نحوه وصححه.

وأما سواد الناس وعامتهم فإن الأولى في حقهم، ومن حصافة الرأي ونفاذ البصيرة أن يكفوا عن الخوض في الفتن وأن يقبل كلُّ فرد منهم على ما يعنيه أمره، ويهمه شأنه في خاصة نفسه من عبادات دينية، وواجبات دنيوية، وأن يحفظ لسانه وسائر جوارحه عن الدخول في شيء من أمر الفتنة، إذ بهذا وجه رسول الهدى  e أمته، مبيناً عليه الصلاة والسلام أن العمل بذلك دليل سعادة المرء وتوفيقه، ومن أسباب نجاته وسلامته، فقد روى أبو داود وغيره عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: (أيم الله لقد سمعت رسول الله e يقول: إن السعيد لمن جُنب الفتن، إن السعيد لمن جُنب الفتن، إن السعيد لمن جُنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر)، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله e قال: (ستكون فتنة صماء عمياء من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقع السيف). رواه أبو داود وابن ماجه، ولهما أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: (بينما نحن حول رسول الله e إذ ذكر الفتنة فقال: إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع عنك ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة).وإن من الواجب على أصحاب القرار، وذوي التأثير في الأمة أن يعملوا على جمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفوفهم، والوقوف ضد قوى الشر والعدوان، وذوي البغي والفساد، وأن يسعوا جاهدين في إطفاء نار الفتنة، وإزالة أسبابها، والتخفيف من وطأتها قدر الطاقة والاستطاعة، بما يحقق مصالح أمة الإسلام، ويدرأ عنها المفاسد، ويجنبها المخاطر.

 

فاتقوا الله أمة الإسلام واحذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وتوبوا إلى الله تعالى وتقربوا إليه بصالح الأعمال، واستديموا دعم إخوانكم اللاجئين في أفغانستان، والمضطهدين في فلسطين، وفي غيرها من سائر الأوطان، فإن ذلك مما تقتضيه أخوة الإيمان، ومن أفضل أنواع البر والإحسان، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً )[المزمل:20]. وتضرعوا أيها المؤمنون إلى ربكم جل وعلا أن يكشف عن أمة الإسلام البلاء والفتن، وأن يرفع عنها المصائب والإحن، فإنه سبحانه سميع مجيب، وإنه تعالى نعم المولى ونعم النصير.ووفق هذه التوجيهات النبوية سار أعلامُ الصحابة والتابعين، وأئمةُ الإسلام البصيرين، وأرشدوا الأمة إلى ذلك، فقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو أعلم الأمة بأمر الفتن:  ( إياكم والفتن لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته، كما ينسف السيل الدمن، فإذا رأيتموها فاجثموا في بيوتكم، وكسروا سيوفكم، وقطعوا أوتاركم، وغطوا وجوهكم)، وكذلك فعل عدد من خيار الصحابة، كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما وغيرهما من أفاضل الصحابة الذين اجتنبوا الفتن واعتزلوها في زمانهم، وحمدت الأمةُ صنيعهم، وعُدَّ ذلك من أعظم مناقبهم كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ألم ،أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)[العنكبوت:1-3].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى، وآلائه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، النبي المصطفى، والخليل المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، وبدور الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى، وسلَّم تسليماً كثيراً.

 

فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، واستقيموا على طاعته ومرضاته، وتقربوا إليه سبحانه بما يحب ويرضى من صالح الأقوال، وأزكى الأعمال، والعمل بتوجيهات سيد الأنام صلوات الله وسلامه عليه، الذي ما فتئ في نصح الأمة وإرشادها إلى كل ما يحقق لها الخير والسعادة، ويجنبها أسباب الشقاء والضلالة، وإن من عظيم نصائحه، وجليل توجيهاته للأمة ما حثَّ عليه من اغتنام أيام العمر، وأوقات الحياة بجلائل الطاعات، وأنواع القربات، قبل أن ينـزل بالمرء ما يمنعه من ذلك، من فتن خاصة أو عامة، فيندم حينئذ على تفريطه وإهماله، ولات ساعة مندم، وإن من أعظم توجيهاته e فيأما بعد:

فاتقوا الله عباد الله وسارعوا إلى الطاعات، وسابقوا الفتن بالصالحات، واحذروا البدع والمحدثات، فإن مما أحدث بعض الناس في هذا الشهر الاحتفاءَ بليلة النصف من شعبان، وتخصيصَها بأنواع من العبادات، رغم أن ذلك لم يثبت فيه نقل صحيح عن رسول الله e ولا عن صحابته، ولم يؤثر فعله عن سلف هذه الأمة، وإنما هو أمر محدث، كما نبه على ذلك الإمام النووي والعراقي وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم من أئمة الإسلام، فلتجتنبوا ذلك عباد الله حرصاً على اقتفاء هدي رسول الله e، فإن خير الهدي هدي رسول الله e، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالسمع والطاعة، ولزوم الجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.ذلك ما روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله e قال: (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، قال بعض العلماء تعليقاً على هذا الحديث: (والمقصود منه الحث على البدار بالأعمال، قبل حلول الآجال، واغتنام الأوقات، قبل هجوم الآفات).

 

 الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">