في التحذير من بعض مساوئ الأخلاق

 

 

الحمد لله الذي ألَّف بين قلوب المؤمنين، وجعلهم بنعمته إخوانا متآلفين، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، جمع المؤمنين على التقوى، وحثهم على المودة والإخاء، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه البررة الأوفياء، والسادة الأتقياء، ومن سار على هديهم واقتفى.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقاته، اتقوه سبحانه في أقوالكم وأعمالكم، فإنه لا سعادة للمرء في الدنيا، ولا فوز له في الأخـرى إلا بتحقيـق التقوى، والاتصاف بها ظاهراً وباطناً.

عباد الله: إنَّ من محاسن دين الإسلام، وأجلِّ مزاياه، ما عقده من أخوة صادقة، ورابطة جامعة بين أفراد المسلمين على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، تحمل على التآلف والتعاطف، والتآزر والتناصر، يرعى قويُّهم حق ضعيفِهم، وغنيُّهم حق فقيرِهم، فتقوى بذلك وحدتهم وينتظم شملهم، ويكونو كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، كما وصفهم بذلك رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه.

ولقد وجَّه الإسلامُ إلى آداب سامية، ومُثُلٍ عالية، من شأنها أن تقوي تلك الرابطة بين المؤمنين، وتعملَ على ترسيخ الأُخُوة بين المسلمين، فلقد حثَّ ديننا القويم على التحلي بمكارم الأخلاق وجميل الشمائل، والاتصاف بحسن المعاملة مع الآخرين، وأن يكون المسلم ذا لين في الجانب، وخفض للجناح، ورعاية للحقوق، ومحافظة على الحرمات، وبعدٍ عن كل ما يتنافى مع مقتضيات الأخوة الصادقة من علل الأخلاق، ومساوئ العادات، التي طالما كانت سبباً في تقويض أركان المجتمع، وتصدُّع بنيانه، وزعزعة الثقة بين أبنائه، وحصول العداء والبغضاء بين أفراده.

ألا وإن من تلك القبائح ومساوئ الأخلاق التي حذر منها الإسلام، مما هي مع شديد الأسى مظاهر مألوفة في واقع كثير من الناس اليوم، ما يُرى من استهانة بأقدار الناس، واستخفافٍ بكرامتهم، والسخرية منهم، والظن بهم الظنون السيئة، ونبزهم بالألقاب، ووصفهم بما يكره ويعاب، وإهدار الأوقات في الغِيبة والنميمة، والولوغ في أعراض الغافلين والغافلات، من المؤمنين والمؤمنات، دون اكتراث أو مبالاة، في صور لئيمة من صور بعض النفوس البشرية حين يضعف فيها الإيمان، وتخلو من المروءة ومكارم الأخلاق، يفعل ذلك البعض غافلين أو متغافلين عما يجره ذلك عليهم من إثم عظيم، ووزر كبير، وما ينتج عنه من عداوة وبغضاء، وإحن وشحناء، وقطعٍ لعرى المودة والإخاء، وغير ذلك من فسادٍ عريض، وضرر كبير.

إنه ما فشت تلك المخالفات، ولا كثرت تلك المساوئ في مجتمع من المجتمعات، إلا كان نذير خرابه، وحلول عقابه، من أجل ذلك وحماية للمجتمع المسلم من تلك الأخطار، أحاط الإسلام حرمات المسلمين بسياج حصين، ودرع واق متين، فلا يجوز أن تنتهك تلك الحرمات في أي صورة من الصور، ولا أن تُمس بحال من الأحوال إلا حين يرتكب أصحابها ما يؤاخذون عليه، إذ يجب أن يعيش الناسُ في المجتمع المسلم آمنين على أنفسهم، آمنين على أعراضهم، آمنين على أسرارهم وعوراتهم، ومن حق المسلم أن تُحفظ حرماته، وتصان كرامته ما دام محافظاً على حدود الله وحرماته، وحقوقِ إخوانه المسلمين، ولذا جاء الوعيد على من خالف ذلك في قول الحق سبحانه في محكم التنـزيل: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً)[الأحزاب:58].

عباد الله: كيف يسوغ لمسلم أن يتشاغل بالبحث عن العيوب، ورجم الناس بها، بل وربما أخفى ما يعلم عنهم من صالح الأعمال، وجميل الخلال، وأظهر المعايب والمساوئ، وربما تعدى ذلك إلى البهتان والافتراء، فلا يزعه عن غيه وضلاله وازعٌ من دين متين، ولا يمنعه عن ذلك مانعٌ من ضميرٍ أو خلقٍ كريم.   

هل من شأن المسلم يا عباد الله ووظيفتِه في هذه الحياة أن يلوك لسانه في أعراض المسلمين، ويتتبعَ عوراتهم!، أليس في عيوبه ما يشغله عن عيوب الآخرين! ويصده عن أذية عباد الله المؤمنين! جاء عن بعض السلف قوله: "إذا سقط العبد من عين الله أشغله بما لا يعنيه".

أليس من الواجب شرعاً، ومن المروءة ومكارم الأخلاق، أن ينأى المسلم بنفسه عن ارتكاب تلك المساوئ، وأن يحفظ نفسه وجوارحه عن إلحاق الأذى بأحد من عباد الله!، ألا يعلم أولئك أن الله قد وكَّل بهم ملائكةً كراماً كاتبين، يسجـلون كل ما يقولون ويلفظون: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)[ق:18].

ألا فليتذكر من ابتلي بشيء من تلك المنكرات ومساوئ الأخلاق، أنه ربما سخر ممن هو خير منه، أو احتقر من هو أفضل منه، أو تطاول على من هو أعز وأكرم عند الله منه، فإنَّ ميزان الفضل، ومعيار القيم والأقدار، ليست في المظاهر المادية في حياة الناس، وإنما هي في ميزان الإسلام بما يتحلى به المرء من خلق كريم، وأدب رفيع، وما يتصف به من نقاء في القلب وصفاء في السريرة، وما يحققه من تقوى الله عز وجل وطاعته: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)[الحجرات:13]، وقال عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى). رواه الإمام أحمد وغيره.

كما أشار عليه الصلاة والسلام في حديث آخر إلى أن في الناس من قد لا يُؤْبَه به، ولا يُلتفت إليه، استقلالاً لشأنه، إلا أن شأنه عند الله عظيم، فهو من عباده المتقين، وأوليائه المقربين، فقد روى الإمام أحمد ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (رُبَّ أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبَرَّه). وفي هذا توجيه نبوي كريم إلى الحذر من التنقص لأحدٍ من عباد الله مهما كانت منـزلته وضيعةً في ميزان هذه الحياة.

أيها المؤمنون: إن تعاليم الشرع المبين، ومقتضى الأخوة الإسلامية، تفرض على المسلم الابتعاد عن تَلَمُّس عيوب الآخرين، واستكشاف ماستروه، واستطلاع أسرارهم وعوراتهم، والتنقص لأقدارهم، وانتهاك حرماتهم، والولوغ في أعراضهم، وتطلب العثرات، والبحث عن الزلات والهفوات، فإن ذلك مما يتنافى مع هدي الإسلام، وليس من المروءة ومكارم الأخلاق، إذ الأصل في المسلم الصلاح والعدالة، ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، حتى يفضحه في بيته، كما ورد بذلك الحديث عنه e.

وروى الإمام أحمد وغيره عنه e أنه قال: ( ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: شراركم المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآءِ العنت). وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره e- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وعرضه، وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). رواه مسلمٌ في صحيحه.

فاتقوا الله عباد الله، وحققوا الأخوة الصادقة فيما بينكم، واحذروا ارتكاب ما يخالف ذلك من قبيح الأقوال والأفعال، وتقربوا إلى ربكم بجميل الأخلاق وصالح الأعمال.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون،يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم)[الحجرات:11-12].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم حق تقاته، واعملوا بطاعته ومرضاته، وعليكم عباد الله بتحقيق معاني الأخوة الإسلامية فيما بينكم، وليؤد كل فرد منكم ما شرعه الإسلام من حقوق لإخوانه المسلمين، فلقد شرع الإسلام لهم حقوقاً كثيرة، حث على القيام بها، والعناية بشأنها، ورتب على أدائها الفضل العظيم، والثواب الجزيل، وجماعُ تلك الحقوق أن يحب المسلم لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، وأن يكره له ما يكره لنفسه، فإنه لا يكمل إيمان المرء إلا بذلك، كما ورد في الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على تحقيق الأخوة الإسلامية الصادقة التي تجعل المسلم سنداً لأخيه المسلم عند الشدائد والنوائب، وعوناً له على كل خير، وحاجزاً له عن كل شر، ليسعـد بذلك المجتمع، وينتشرَ في أرجائه الأمن والاطمئنان، ويعمَّ في ربوعه السعادة والسلام.

المرفقالحجم
ملف 34في التحذير من بعض مساوئ.docx35.59 كيلوبايت
 

 

الحمد لله الذي ألَّف بين قلوب المؤمنين، وجعلهم بنعمته إخوانا متآلفين، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، جمع المؤمنين على التقوى، وحثهم على المودة والإخاء، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه البررة الأوفياء، والسادة الأتقياء، ومن سار على هديهم واقتفى." data-share-imageurl="">