التحذير من الرشوة

 

 

الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، لا معقب لحكمه وهو الحكيم العليم، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد القهار، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما اختلف الليل والنهار.

 أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم حق التقوى، وتعاونوا فيما بينكم على ما يصلح شأنكم، ويسعد مجتمعكم، فإن من أمارة صلاح المجتمع أن يتعاون أفراده على البر، وإشاعة الخير، ونشر ألوية الفضيلة والمروءة، والحيلولة دون نوازع الشر والعدوان، من قبائح الأفعال، ودنايا الأخلاق، حفاظاً على المجتمع أن يتطرق إليه خلل، أو يسري إليه ضرر، تحقيقاً لقول الحق سبحانه:( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب)[المائدة: 2].

ألا وإن من أنواع الإثم وأصناف العدوان التي طالما عصفت بكثير من المجتمعات، فألحقت بها أشد الأضرار، وأنكى الأخطار: أكلَ أموال الناس بالباطل، وإن من أشد أنواع ذلك خطراً وأعظمها ضرراً، وأسوأها أثراً على الأفراد والجماعات: تعاطي الرشوة بأي شكل كانت، وعلى أي صورة حصلت، وبأي اسم سميت، فإن الأسماء لا تغير من الحقائق شيئاً.

فالرشوة يا عباد الله بلاءٌ عظيم، وداءٌ وبيل، ومرضٌ فتاك، ما أقدم عليها امرؤ إلا دل على فساد الذمة، ومهانة النفس، وضعف الديانة، وسقوط المنـزلة عند الخلق، والهوان على الحق.

وما فشت الرشوة في مجتمع إلا اضطربت فيه الأحوال، وساءت بين أفراده العلاقة والصلات، وحلَّ فيه العداء والبغضاء، والإحنُ والشحناء، وما خالطت عملاً إلا أفسدته، ولا نظاماً إلا قلبته، ولا قلباً إلا أظلمته، وما كثرت في أمة إلا حلَّ الظلم فيها محل العدل، والغش محل النصح، والخيانة محل الأمانة، والخوف محل الأمن، فالرشوة مهدرةٌ للحقوق، معطلةٌ للمصالح، مُجَرِّئةٌ للفسقة والظالمين، وسبب لشيوع الفساد، وكثرة المفسدين، فكم حصل بسبب الرشوة من طمسٍ لمعالم الحق، وحجبٍ للعدل، وإقرار للظلم، وتسترٍ على ذوي الجرائم والشرور، وتلفيقٍ للتهم حول الأبرياء، فكم من تقي صالح لم يوفَّ حقه، وأهين عند موظف لئيم، لأنه لم يدفع له رشوة، وكم من فاسق قُدِّم على غيره، وأعطي مطلبه، وإن كان باطلاً، وكم من حقوق ضيعت، وأموال خاصة وعامة نهبت، ومصالح مجتمع وأمة أهدرت، بسبب الخيانة وقبول الرشوة، بل وكم أُزهقت بسببها من أرواح، واستبيحت من حُرُمات، مما جرَّ على دولٍ وشعوب مصائب عظمى، وفجائع كبرى، ولتتصوروا عباد الله لو تساهل بعض حراس الحدود والثغور ومسئولي الأمن في بلد من البلدان، وخانوا الأمانة التي ائتمنوا عليها مقابل رشوةٍ يأخذونها، فتسلل الأعداء والمجرمون، وما معهم من معاول الشر والفساد إلى داخل البلاد، فكم يحدث جراء ذلك من فساد عريض وبلاءٍ عظيم على العباد والبلاد!، وإن في وقائع السابقين لعبرة، وفيما سطَّرت كتب التاريخ من ذلك لموعظة.

عباد الله: لما في الرشوة من أضرار عظمى، وما ينتج عنها من مفاسد كبرى، وقف الشارع منها موقفاً صارماً، فجعلها في طليعة المحرمات وعدها من كبائر الذنوب والآثام، وجاء الذم لفاعليها في قـول الحق سبحانه في وصف حال أهل الكتاب وبيان سوء أعمالهم: (وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملونلولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون)[المائدة: 62-63]، وجاء في تفسير السحت عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه الرشوة.

وورد على لسان رسول الهدى e اللعن لمتعاطي الرشوة، سواء كان باذلاً لها ليتوصل بها إلى باطل، أو يمنع بها حقاً، أو كان آخذاً لها، أو كان وسيطاً بين الراشي والمرتشي، فالكل مستحق للعن والطرد من رحمة الله، جزاء تعاونهم على الإثم واقترافهم هذا الجرم، روى أبو داود والترمذي عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله e الراشي والمرتشي). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله e الراشي والمرتشي في الحكم). رواه الترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم وزاد: (والرائش يعني الذي يسعى بينهما).

فكيف يليق بمسلم يسمع هذه القوارع والزواجر من الشارع الحكيم، ثم يفكر في الإقدام على الرشوة أخذاً أو إعطاءً، بل كيف يستسيغ مسلمٌ أن يُطعم نفسه وأهله وولده من مال رشوة وهي سحتٌ وحرام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنةَ لحمٌ ودمٌ نبتا على سحت، النار أولى به). رواه الترمذي وغيره، وفي صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام: (ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، ياربِّ ياربِّ، ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وملبسُه حرام، وغُذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك).

فلقد حال بينه وبين قبول دعائه، أكله الحرام وانتفاعه به، وماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلتُه بربه! وحُجِب دعاؤه، وحيل بينه وبين رحمة الله! ولذا قال بعض السلف: "لو قمت في العبادة قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك".

وثمة عقوبةٌ عامةٌ للمجتمع حين يستشري فيه هذا الداء، ويعم فيه هذا الوباء، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن العاص رضي الله عنه مرفوعاً: (ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسَّنة - أي بالقحط والجدب-، وما من قوم يظهر فيهم الرُّشا إلا أخذوا بالرعب) أي أنه لا يهدأ لهم بال، ولا يهنأ لهم حال، لكثرة ما ينتابهم من الفواجع والمصائب التي تقض المضاجع، وتأخذ القلوب بالفزع والهلع جراء تواطئهم على الباطل.

فعملٌ هذه بعض أضراره، وشيء من مساوئه وأخطاره، كيف يليق بعاقلٍ، فضلاً عن مسلم مؤمن بلقاء ربه أن يقدم عليه، أو يرضى بحصوله مع إمكان منعه.

والأسوأ من ذلك أن يعم هذا الداء كثيراً من المجتمعات المسلمة، ويشيع بين أفرادها، وكأنه أمرٌ مألوفٌ، لا غضاضة في فعله، ولا إنكار على مرتكبه، وما ذاك إلا لقسوة القلوب، واستيلاء الغفلة على النفوس.

ألا فاتقوا الله عباد الله، ولتقفوا في وجه كل باطل، ولتنكروا هذا المنكر، ولتمنعوا شيوعه بينكم، ولتتعاونوا على إحقاق الحق، ورفع الظلم، والأخذ على أيدي الظالمين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)[البقرة: 188].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضـله وامتـنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى ربكم لعلكم تفلحون، وتعاونوا فيما بينكم على رفع منار الخير، والارتفاع بالنفوس عن مزالق الإثم.

ألا وإن الرشوة من مزالق الإثم، وإن خطرها في المجتمع لعظيم، وإن تعاطيَها والعملَ على إشاعتها بين الناس جرم كبير، وانحراف عن سواء السبيل، وتجاوزٌ لحدود الشرع المبين، يجر على متعاطيها أسوأ العواقب في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يُبتلى بمحق البركة من الرزق، وسوء السمعة بين الخلق، ويعيش بين الناس مرزَّأً منكوداً.

أما في الآخرة فتحق عليه اللعنة والطرد من رحمة الله، ودخول النار وبئس مثوى الظالمين.

فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بمن مضى من الأمم السالفة قبلكم، كيف حلت بهم نقمة الله، ونزل عليهم عذابه، حينما خالفوا شرعه وتعدوا حدوده، فاعتبروا يا أولى الألباب.

المرفقالحجم
ملف 42التحذير من الرشوة.docx34.65 كيلوبايت
 

 

الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، لا معقب لحكمه وهو الحكيم العليم، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد القهار، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما اختلف الليل والنهار." data-share-imageurl="">