التحذير من الإسراف والتبذير

 

الحمد لله الكريم المنان، دائم الفضل والإحسان، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل العطاء، وسابغ الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما اختلف الليل والنهار.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعملوا بطاعته ومرضاته لعلكم تفلحون، واشكروه تعالى حق شكره على ما أولاكم من نعم عظمى، وآلاء تترى، حيث أوجدكم من العدم، ومنَّ عليكم بنعمة السمع والعقل والبصر، وهداكم إلى الدين الحق الذي ضل عنه كثير من الخلق، هداكم به إلى الصراط المستقيم، وأخرجكم به من الظلمات إلى النور، ووالى عليكم من النعم ما لا تحصون، ومن الخيرات ما لا تعدون، حتى غدوتم تهنؤن بنعمٍ قلَّ نظيرها، وعزَّ مثيلها، ولا سيما في هذه البلاد المباركة، حيث الأمن الوارف، والرزق الواسع، والرخاء الشامل، والخيرات الوافرة، والنعم المتكاثرة الظاهرة والباطنة (وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)[إبراهيم:34]، فحَقُّ هذه النعم أن تشكر ولا تكفر، والواجب  للمنعم دوام الحمد والثناء على عظيم الآلاء، وجليل العطاء، فإنه ما حفظت النعم ولا استزيدت بمثل الشكر لله، ولا سلبت ومنعت إلا عند التنكر للجميل، وعدم الشكر للمنعم الكريم، كما قال عز وجل: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد)[إبراهيم:7].

فاشكروا أيها المؤمنون ربكم على ما خولكم من النعم السابغة، والمنن الضافية، شكراً تلهجُ به الألسن، وتوقنُ به القلوب، وتصدِّقه الجوارح، إذ الشكر ليس بأقوال تردد، ولا عبارات تكرر فحسب، وإنما هو مع ذلك يقين جازم بفضل الله المطلق على العباد، يقينٌ يحمل على تعظيم الرب وإجلاله، ومحبته وخشيته، والعمل بطاعته، والإنابة إليه، وسلوك مسالك المتقين، وانتهاج نهج الصالحين من عباد الله الشاكرين، والاستعانة بنعمه تعالى على بلوغ رضاه، واستعمالها فيما يرضيه عز وجل، وفي حدود ما أباح وشرع، من نفقات مباحة، وأوجه بر وطاعة.

أما حين يستعان بالنعم على معصيته تعالى، ومخالفة شرعه، والتجاوز لحدوده، فذلك دليل كفران النعم، وجحود فضل المنعم، والتنكر للإحسان، مما يستوجب غضب الجبار، وحلول نقمه، وزوال نعمه الحاضرة، ومنع خيراته الوافدة، وذلك مقام العدل، حين لا يجدي الفضل، كما قال عز وجل: (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأنَّ الله سميع عليم)[الأنفال:53].

وإن مما يبعث على عظيم الأسى يا عباد الله ما يُرى من مظاهر عدم الشكر لله جل وعلا في واقع البعض منا في ضروب من الغفلة عن الله، إما بترك ما افترض سبحانه من فرائض وحقوق، أو باقتراف المعاصي والذنوب، وارتكاب الفواحش والآثام، والمجاهرة بالفسوق والعصيان، والانقياد للأهواء والشهوات، ورفع ألوية الباطل والمنكرات، والإعلان بها، والدعوة إليها عبر وسائل مختلفة في كثير من بلاد الإسلام، وما يُرى من مظاهر الإسراف والتبذير في الإنفاق، وصرف الأموال الطائلة فيما حرم الله عز وجل ونهى عنه، من سبل الغواية والضلالة، أو التوسع في المباحات، توسعاً يصل إلى حد الإسراف المذموم، والتبذير المحظور في المآكل والمشارب، وفي المراكب والمساكن، وفي إقامة الولائم والاحتفالات، ولا سيما في مناسبات الزفاف، وما يحصل فيها من إسراف وتبذير، يتجاوز الحد المعقول، والواجب المشروع، والأسوأ من ذلك ما قد يصاحب تلك المناسبات من معاص ومحرمات، ومجاهرة بالمنكرات، كاختلاط الرجال بالنساء، واستعمال آلات اللهو والباطل، ورفع أصوات المعازف والمزامير، وغير ذلك من منكرات ومخالفات شرعية، تصد عن ذكر الله وطاعته، وتستجلب غضبه ومقته، يُنفَق فيها أموال طائلة، ويُبذَل من أجلها تكاليف مادية باهضة، تبدد مال الأغنياء، وتثقل كاهل الفقراء، وطالما كانت عائقاً لكثير من الشباب عن الإقدام على الزواج، والإحجام عنه، لعسر تكاليفه وأعبائه، ومما أدى إلى حرمان كثير من الفتيات عن حقهن المشروع في الزواج، وعضلهن عن النكاح بالأكفاء، وكم في ذلك يا عباد الله من مفاسد وأضرار على الأفراد والمجتمع، حين تفشوا فيه تلك المظاهر المخالفة لهدي الإسلام.

وإن تعاليم الشرع وتوجيهاته لتؤكد على السعي في تيسير أمور النكاح، وتسهيل وسائله، والعمل على تخفيف مؤنته، وعدم المغالاة في المهور، ترغيباً للشباب في الإقبال على النكاح، وتوخِّياً لحصول البركة والتوفيق فيه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة). رواه الإمام أحمد وغيره.

وروى أهل السنن  عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لا تغالوا في صداق النساء فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم به رسول الله e".

وإن الأخذ بمنهج الوسطية والاعتدال في الإنفاق يا عباد الله، لمن آكد ما شرع الإسلام من تشريعات تحقق المصالح، وتدرأ المفاسد، فهو المسلك الرشيد، والمنهج السديد الذي ينبغي أن ينهجه المسلم في حياته، وفي جميع شؤونه، فلا إسراف ولا تقتير، ولا تبذير ولا تقصير، وإنما وسط بين ذلك، كما قال عز وجل: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً)[الإسراء:29]، وقال جل وعلا في بيان منهج عباده الأبرار في الإنفاق: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)[الفرقان:67]، وقال سبحانه: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنَّه لا يحب المسرفين)[الأعراف:31]، وجاء التوجيه النبوي الكريم بالتأكيد على العمل بذلك المنهج القويم الذي ورد في التنـزيل العزيز فقال e: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مَخِيلَة).

ولقد حذر الإسلام من مخالفة هذا المسلك في الإنفاق، وندد بالمخالفين، فقال سبحانه: (ولا تبذر تبذيراً،إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً)[الإسراء:26-27].

فاتقوا الله عباد الله، واسلكوا مسالك الهدى والرشاد، والتزموا طريق الحق والسداد، في كل ما تأتون وتذرون، واحذروا مخالفة ذلك والإعراض عنه، واشكروا نعم الله عليكم، وقيدوها بالطاعة ومجانبة المعصية، واستجيبوا لأمر الرب العظيم، واستمعوا لوعده الكريم إذ يقول: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)[البقرة:152].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقاته، واشكروه على آلائه ونعمه شكراً يقود إلى الاستقامة على الدين الحق، والسير على نهج الهدى، والمسارعة إلى مغفرة الله ورحمته صدقاً وإخلاصاً، فإن المؤمن حقاً يا عباد الله هو من لا تزيده النعم إلا إقبالاً على الله وتوجهاً إليه، فكلما جدد الحق له نعمة ازداد له عبودية وخضوعاً، وإنابة وخشوعاً، وإن نعم الله عليكم تتجدد كل وقت وحين، فقيدوها بالشكر والإنابة للمولى جل وعلا، ولتحذروا الانقياد للأهواء، والاستسلام للشهوات، وصرف الأموال في المسالك المحرمة، والأوجه المشبوهة، والإسراف والتبذير في شتى ضروبه، ومختلف دروبه، فإن ذلك من ألوان البطر والأشر، وعدم الشكر للمنعم المتفضل.

فإن من شكر الله على نعمة الأموال: أن تبذل في ما أذن به تعالى وشرع في سبل الخير، وأوجه البر، التي تعود بالنفع العاجل والآجل للمنفق.

وإن من أجلِّ ذلك إعانةَ إخوان لكم في أنحاء من المعمورة هم في أمس الحاجة إلى شيء من فضول أموالكم، حيث يعانون قلة في الغذاء، وندرة في الدواء، جراء ما حل بهم من كوارث ومصائب، فأمِدُّوهم بما تستطيعون، وأعينوهم بما عليه تقدرون، فإن ذلك من أفضل أنواع البر والطاعة، ومما تقتضيه الأخوة الإيمانية، ومن أسباب دوام الخيرات والنعم لديكم، واندفاع البلاء والنقم عنكم (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)[المزمل:20].

المرفقالحجم
ملف 43التحذير من الإسراف والتبذير.docx35.23 كيلوبايت
 

الحمد لله الكريم المنان، دائم الفضل والإحسان، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل العطاء، وسابغ الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما اختلف الليل والنهار." data-share-imageurl="">