في ذكرى الهجرة

 

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى وآلائه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، نبيه المصطفى، وحبيبه المجتبى، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى آتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وتزودوا للقاء ربكم، فإن خير الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.

عباد الله: في هذه الأيام يستقبل العالـمُ الإسلاميُ عاماً هجرياً جديداً، يتجدد لهم فيه ذكرى حدثٍ عظيم من أعظم الحوادث صدى، وأبلغِها أثراً في تاريخ الإسلام، إنه حدث الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، ذلكم الحدث الذي غَيَّر مجرى التاريخ، ولفت أنظار العالم إلى دين الإسلام، وما جاء به رسول الهدى e من تعاليم ربانية، وشرائع سماوية، تحمل النور والهداية للبشرية، وتكْفُل السعادة والهناء للإنسانية، ذلكم الحدث العظيم الذي تجلى فيه الصبرُ في أحلى صُوَرِه، والجهادُ والفداءُ في أسمى معانيه، فلم تكن هجرة المصطفى e هرباً من واقع الظلم والطغيان، فرسول الهدى e المثل الأعلى للشخصية الفذَّة التي لا تتأثر أمام الخطوب، بل كانت الهجرة من أجل إعلاء الدين، ورفع راية الإسلام خفاقة في أرجاء المعمورة، فهو الدين الحق الذي كتب الله تعالى له الظهور على الدين كله، كما كانت الهجرة لبناء قاعدة للدولة الإسلامية، ولتنظيم المجتمع المسلم الراشد، والحفاظ على مقومات الشخصية الإسلامية من الضعف أمام سطوة الباطل، والعمل على تطبيق شرع الله وتنفيذ أحكامه، لإشاعة الأمن، وضمان الرخاء والاستقرار في الأرض، فلولا الهجرة لم يكن شيء من ذلك، ولم يكن للمسلمين كيان، ولم تقم لهم دولة.

ولقد تضمنت هجرة رسول الهدى e آيات بينات، ومعجزات خارقات، أيَّدَ الحقُّ بها نبيَّه e، ولتكون عبرة لأمة الإسلام، يستلهمون منها الدروس، ويأخذون منها الأسوة والقدوة به e، فيعملون جاهدين في الاستمساك بهذا الدين الحق، والقيامِ بالدعوة إليه، وهدايةِ الناس إليه، ويجاهدون في سبيل رفع رايته، وإعلاء شأنه، حتى يرتفعَ صوت الحق على الباطل، ويندحرَ الكفر وأهله، ويكونَ الدين كله لله، ويعبدَ الحق وحده دون سواه.

أيها المسلمون: لقد كان من أمر الهجرة النبوية أن الحق سبحانه حينما أنعم على البشرية ببعثة رسول الهدى e وإنزال الوحي عليه، في هذه الرحاب الطاهرة، والمواطنِ المقدَّسة، فقام بالدعوة إلى دين الله، وتبليغ رسالة ربه، حتى يُعبدَ اللهُ وحده، ويُخْلَصَ له الدين، فآمنَ به من آمن ممن كتب الله لهم السعادة والتوفيق، وأعرض أكثر الناس عن قبول الحق، وأبوا إلا كفوراً، ووقفوا في وجه الدعوة الإسلامية، محاولين إطفاء نور الله   (ويأبى الله إلا أن يُتِمَّ نورَه ولو كره الكافرون)[التوبة: 32]، وتسلط المشركون على المستضعفين من المؤمنين، فألحقوا بهم أنواعاً من العذاب، وصنوفاً من النكال، في محاولات يائسةٍ لصدهم عن الحق الذي جاء به رسول الهدى e، ولقد بلغ الطغيان بالمشركين، وتمادى بهم العدوان إلى إلحاق الأذى برسول الهدى e، طمعاً في أن يثني ذلك من عزمه e عن تبليغ رسالة ربه، حتى إذا ما يئسوا مما أرادوا، وضاقوا بالنبي e ذرعاً، ولم يطيقوا عليه صبراً، ائتمروا وتشاوروا فيما يخلِّصهم من رسول الله e ويقضي على دعوته، فأجمعوا أمرهم على قتله، فأَطْلع الله تعالى نبيه e على ما قصدوا إليه، وما عزموا عليه، ونزل في ذلك قول الحق سبحانه: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) [الأنفال: 30]، فحفظ الله عز وجل نبيه e من مكرهم، ونجاه من كيدهم، وأذن له في الهجرة إلى المدينة، فخرج صلوات الله وسلامه عليه يصحبه أفضلُ هذه الأمة وخيرها  أبو بكر الصديق رضي الله عنه، واختفيا في الغار، فهبَّت قريش في طلبهم، والبحث عنهم، وتعقَّبوا آثارهم، فأعمى الله تعالى أبصارهم وبصائرهم، فلم يهتدوا إليهم.

وفي تلك الحال اشتد خوف الصديق رضي الله عنه، لا على نفسه، بل شفقةً على النبي e أن يُخْلَص إليه، حتى قال للرسول e: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا"، أما النبيُّ e - وقد أنزل الله سكينته عليه- فقد كان هادئ البال، مطمئن الحال، يُهدِّئ من روع أبي بكر ويطمئنه، ويذكِّره بمعية الله تعالى لهم قائلاً: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما! لا تحزن إن الله معنا)، ثم خرجا من الغار بعد ثلاث ليال، تحوطهم عناية الرحمن، وتكلؤهم معيته وحفظه، وما إن بلغوا مشارف المدينة حتى أشرقت ضياءً وابتهاجاً، وامتلأت قلوب المؤمنين بمقدمه الميمون غبطةً وحبوراً، وفرحاً وسروراً، ولم ير أهل المدينة أكثر سروراً، ولا أعظم ابتهاجاً من ذلك اليوم الذي قَـدِم عليهم فيه رسول الله e.

فلما استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة، واطمأن بها، وأسس بها الدولة الإسلامية، أذن الله تعالى له بالجهاد والقتال للأعداء الذين يصدون عن سبيل الحق، ويقفون ضد دعوة الإسلام، ويعادون أهل الإيمان، فأقام e الجهاد، وجهز الجيوش، وغزا الغزوات، وبعث السرايا، وانطلقت جحافل المؤمنين في أنحاء الأرض تجاهد في سبيل الله، مؤيدةً بنصر الله وعونه، وتتابعت الانتصارات الإيمانية، والفتوحات الإسلامية، حتى عَظُم شأن الإسلام، وارتفع صوت الحق، وعلت راية الإيمان، وما هي إلا بضع سنوات حتى عاد e إلى مكة فاتحاً منتصراً، فدخلها في تواضع وخشوع لله تعالى، حامدا‌ً لربه أن حقق له ما وعده من النصر المبين، والتمكين في الأرض، والعودة إلى بلده الذي أُخرج منه، فدخل مكة تحيط به كتائب أهل الإيمان، وهم يهللون ويكبرون، فبدأ e بالطواف بهذا البيت الحرام، وتحطيم الأصنام، والقضاء على معالم الشرك والوثنية، وهو يردد قول الحق سبحانه: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إنَّ الباطل كان زهوقاً)[الإسراء: 81]، ثم دخل e الكعبة المشرَّفة وصلى فيها، وكبر في نواحيها، ثم قام على باب الكعبة خطيباً، يدعو إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، ويعلن البراءة من الجاهلية وعاداتها، ويؤمِّنُ أهلَ مكة على أنفسهم وأموالهم، ويصفح عنهم قائلاً: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده). ثم قال: (يا معشر قريشٍ إنَّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمَها بالآباء، الناس من آدم وآدمُ من تراب، ثم تلا قول الحق عز وجل: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إنَّ الله عليم خبير)[الحجرات: 13]، ثم قال: ( يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الرحمين) [يوسف: 92] اذهبوا فأنتم الطلقاء).

فاتقوا الله عباد الله واستلهموا من هجرة المصطفى e الدروس، وخذوا منها العبر في التمسك بهذا الدين القويم، وتطبيق أحكامه، والعمل على نشره، والدعوة إليه، وبيان محاسنه، والجهاد في سبيله بكل صدق وإخلاص، حتى ترتفع راية الإيمان، وتعلو كلمة الحق والعدل مدوية في الآفاق، وتدبروا كيف كانت عاقبة الصبر على طاعة الله، والجهاد في سبيله، فإن العاقبة للمتقين، وإن النصر للمؤمنين(ولَيَنْصُرَنَّ الله من ينصرُه إن الله لقوي عزيز)[الحج: 40].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذْ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغاز إذ يقول لصاحبه لا تحزنْ إنَّ الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيَّده بجنود لم تروها وجعل كلمةَ الذين كفروا السُّفلى وكلمـةُ الله هي العليا والله عزيز حكيم)[التوبة:40].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله ‏تعالى لعلكم تفلحون، وتذكروا عباد الله أن مرور الليالي والأيام، وتصرم الشهور والأعوام، مُؤْذِنٌ بانقضاء الآجال، وتغير الأحوال، وإنَّ في ذلك لعبرة لأولي البصائر والألباب، وإن من الحزم والرشاد أخذَ النفس في سبيل الفلاح والنجاة، ومحاسبتَها على التقصير والإهمال فيما مضى، وتداركَ ما يبقى، فإن الأعمار تطوى، والأجيال تفنى، فكم من مؤمِّلٍ فاته الأمل، وكم من مسوِّفٍ عاجله الأجل، وهاأنتم عباد الله قد ودعتم عاماً مضى وانقضى لا يُدرى ما الله صانع فيه، وتستقبلون عاماً أتى لا يُدرى ما الله قاضٍ فيه.

وإنَّ من دلائل الخير وعلامة السعادة للعبد أن يوفق للاستقامة، والسيرِ على درب التقوى، وأن تكون حاله في المستقبل خيراً منها فيما مضى، إقبالاً على طاعة الله، وتقرُّباً إليه، وإكثاراً من صالح الأعمال، وإن مما يشرع من الطاعة وصالح العمل في هذا الشهر الحرام: الإكثارَ من الصيام، فقد قال عليه الصلاة والسلام في معرض الحثِّ على ذلك: ( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم). رواه مسلم في صحيحه، وأفضلُ أيامه صوماً وآكدُها استحباباً صوم يوم عاشوراء، فإنه يومٌ نصر الله تعالى فيه الحقَّ على الباطل، فنجَّى موسى ومن معه من المؤمنين، وأغرق فرعون وملأه، فكان ذلك آيةً للمؤمنين، وعبرةً لكل طاغية يفسد في الأرض، ويصد عن سواء السبيل، جاء في الحديث عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله e قدم المدينة، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله e: (ما هذا اليوم الذي تصومونه، فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعونَ وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه. فقال رسول الله: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله e وأمر بصيامه). وقد أبان عليه الصلاة والسلام عن فضل صيامه وثوابه بقوله: (صيام يوم عاشوراء أحتسبُ على الله أن يكفِّر السنة التي قبله). رواه مسلم في صحيحه. وقد ندب e من أراد صيامه أن يصوم يوماً قبله، أو بعده، مخالفةً لليهود.

فاغتنموا أيها المؤمنون هذا الفضل العظيم، والثواب الجزيل، على هذا العمل اليسير، واجتهدوا في صالح الأعمال، ابتغاء فضل الله ورحمته، فإنَّ فضله تعالى عظيم، وإنَّ رحمته قريب من المحسنين.

 

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى وآلائه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، نبيه المصطفى، وحبيبه المجتبى، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى آتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">