حقيقة محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

الحمد لله الذي مَنَّ على المؤمنين( إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياتِه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )[آل عمران:164] أحمده سبحانه وأشكره على آلائه ونعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم حق تقاته، فإن في تقواه العصمة من الضلالة، والسلامة من الغواية، والسعادة في الدنيا والآخرة.

عباد الله: كانت البشرية قبيل البعثة النبوية، لا سيما أمة العرب في جهل عظيم، وضلال مبين، وشقاء مرير، لا دين يوحِّدهم، ولا رابطة تؤلف بينهم، ولا نظام يسوسهم، بل سلطانهم القهر والغلبة، الضعيف فيهم مهان، والقوي بينهم مهاب، قد عمَّهم الكفر والضلال، فعبدوا الأوثان والأصنام، وسجدوا للأشجار والأحجار، وفشت فيهم الفواحشُ والآثام، وسادهم الظلم والطغيان، حتى إذا ما أذن الله تعالى بانجلاء هذه الظلمة، وكشف هذه الغمة عن البشرية، واشتدت حاجة الإنسانية إلى مصلح عظيم، وهادٍ بصير، يهديها إلى دين الحق وإلى طريق مستقيم، اختار الحق عز وجل لها من بين أمة العرب، من قد فضله واصطفاه في الأزل، وجعله من أعلاهم شرفاً، وأعزِّهم نسباً، وأكرمِهم محتدا، وأقدسِهم موطنا، من لم تعرف البشرية له مثيلاً، ولم تر الإنسانية له نظيراً، إنه النبيُّ الأعظم، والرسول الأكرم، المفضَّل على سائر البشر، خصَّه المولى جل وعلا بخصائص عظمى، ومَيَّزه بشمائل كبرى، أدَّبَه ربه فأحسن تأديبه، وأكمل له خَلْقَه وخُلُقَه، فكان أحسنَ الناس خَلْقاً، وأبهاهم منظراً، وأفصحَهم لساناً، وأبلغَهم كلاماً، وأرجحهم عقلاً، وأعظمهم خُلُقاً، وأوسعهم حلماً، وأصفاهم طوية وقلباً، وأزكاهم نفساً، وأقواهم إيماناً ويقيناً، أنزل الله تعالى عليه وحيه المبين، وكتابه الكريم، رحمةً للعالمين، وهدى للناس أجمعين، أرسله الحقُّ تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

وكان مبدأُ أمره صلوات الله وسلامه عليه ما أخبر به عن نفسه فيما رواه الإمام أحمد وغيره عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (قلت يا رسول الله ما كان بدءُ أول أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نورٌ أضاءت منه قصورُ الشام). إنه نورُ الوحي المبين، الذي استضاءت منه المشارق والمغارب، فملأ الله تعالى به القلوب إيماناً ويقيناً، وشمل البسيطة رحمة وعدلاً، أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، طَهَّرَ اللهُ به الأخلاق من الرذائل، واستكملت به النفوس الفضائل، استبدل به المؤمنون بعد الشرك إخلاصاً لله وتوحيداً، وبعد الضلالة والعمى بصيرةً وهدى، وبعد الفتن والافتراق أُلفةً واعتصاماً، وبعد القطيعة والعقوق صلةً وبراً، وبعد الظلم والجور عدلاً وإنصافاً ( قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌيهدي به الله من اتَّبع رضوانَه سُبُلَ السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النُّور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم)[المائدة:15-16]. فقام صلوات الله وسلامه عليه بالدعوة إلى دين الله، وتبليغ رسالة ربه خير قيام، لا يرده عن ذلك رادٌّ، ولا يصدُّه عنه صاد، إلى أن أشرقت الدنيا برسالته ضياءً وابتهاجاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وسارت دعوته مسير الشمس في الآفاق، وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار.

وأقام الله تعالى به أمةً عادلة رحيمة قوية، أخرجت الناس من الضلالة إلى الهداية، ومن الجهل إلى العلم، ومن الظلم إلى العدل، ومن العبودية إلى الحرية، ومن العداء والبغضاء إلى التآلف والإخاء، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن التفاضل إلى المساواة، حتى جعل من الأعراب الجفاة رجالاً طهَّر الإيمان قلوبهم، وصحح العلمُ عقولهم، وكانوا أمة خير، ومشعل هداية، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون.

ثم استأثر الله تعالى به لينجز له ما وعده به من السعادة والكرامة، بعد أن بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، وأقام الدين، وأرسى قواعد الملة، وأبان أحكام الشريعة، وترك أمته على المحجَّة البيضاء، البيِّنة للسالكين، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا من كان من الهالكين.

أيها المسلمون: فضَّل الحق عز وجل نبيه محمداً ،e وشرفه على الخلق أجمعين، فهو سيد الأولين والآخرين، وخليل رب العالمين، وإمام الأنبياء والمرسلين، افترض الله تعالى على البشر طاعته واتباعه، وأوجب عليهم تعظيمه وتوقيره، ومحبته محبةً تقدم على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، إذ لا يتم إيمان العبد، ولا يكمل إسلام المرء إلا بذلك، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين). رواه البخاري ومسلم.

وحقيقة محبته صلوات الله وسلامه عليه طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، يقول عز شأنه: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب)[الحشر: 7]، فأمارة محبته صلوات الله وسلامه عليه تعظيمه في النفوس، وإجلاله في القلوب، إجلالاً يظهر أثره في التمسك بسنته، والاهتداءِ بهديه، مع الإيمان الجازم بأنه رسول رب العالمين، وسيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وأنَّه مع هذا الشرف المنيف، والمقام الرفيع، عبدٌ لله ورسوله، لا يجوز أن يُصرف له شيء من خصائصِ الألوهية، كدعائه من دون الله، أو الالتجاء إليه في كشف ضرٍّ، أو جلب نفع، أوسؤاله الحاجات، أو الاستغاثة به من دون الله، أو وصفه بصفات هي من خصائص الرب جل وعلا، فإن ذلك كلَّه مما ينافي التوحيد لله تعالى، وينافي إخلاص الدين له وحده، كما قال عزَّ شأنه: (وأنَّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)[الجن: 18]، وقال عليه الصلاة والسلام في النهي عن الغلو في إطرائه ومدحه: (لا تطروني كما أطْرَتِ النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله). رواه البخاري وغيره.

فاتقوا الله أيها المؤمنون، وحققوا محبة رسول الله e بالتمسك بسنته، والسيرِ على هديه، فليست محبته e مجرد دعاوى قولية، أو مشاعر وعواطف نفسية، أو مظاهر اجتماعية، وإنما هي محبة قلبية خالصة، يظهر أثرها، ويتجلى صدقها في موافقة هديه صلوات الله وسلامه عليه، في كل عملٍ من الأعمال التعبدية، وتقديمِ قوله على قول كلِّ أحد كائناً من كان، فتلكم حقيقية محبته e، فحققوها أيها المؤمنون تنالوا شرف الدنيا وعزَّ الآخرة.

اللهم ارزقنا حب نبيك e، واحشرنا في زمرته، وأسعدنا بشفاعته، بفضلك ومنِّك يا واسع الفضل والعطاء، يا أكرم الأكرمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قل إن كنتم تحبوا الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)[آل عمران: 31].

نفعني الله وإياكم بالذكر الحكيم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله على آلائه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقاته، وراقبوه في أقوالكم وأعمالكم، وتقربوا إليه بما شرع في كتابه وعلى لسان رسوله e، وإياكم ومحدثات الأمور، والابتداعَ في الدين، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). رواه البخاري ومسلم.

ألا وإن مما أحدث بعض الناس في هذا الشهر إقامةَ احتفالات في ذكرى مولد رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه، إظهاراً لمحبته، وتنويهاً بفضله وشرفه، ومن المعلوم أن محبته e فرضٌ على كل مسلم، بل ولا يتم الإيمان إلا بذلك، وحقيقة محبته العملُ بما يبلِّغ به عن ربه، والاهتداءُ بهديه، والتقيدُ بسنته، وأما التنويه بذكره، وبيانُ فضله وشرفه، فهو صلوات الله وسلامه عليه في القمة بين الخلائق كلهم في الشرف والفضيلة، وقد رفع الحق عز وجل ذكره، وأعلا شأنه، وقرن اسمه باسمه، فلا يذكر عز وجل إلا ويذكر معه رسول الهدى e، وذِكْرُه يتكرر في كلِّ يوم وليلة في الصلاة والخطب والأذان، غير أن الاحتفال بيوم مولده e، وتعظيمَ هذا اليوم، واعتقادَ فضيلته وشرفه، وتخصيصَه بعبادات واجتماعات، تقام فيها الولائم والحفلات، وكأنه عيد من الأعياد المشروعة، مما لم يرد به الشرع المطهر، فليس في الإسلام سوى عيد الفطر وعيد الأضحى، وإنما أُحدث الاحتفال بيوم مولده e بعد مضي القرون المفضلة، المشهود لها بالخير والفضيلة، ولم يؤْثَر الاحتفال به عن أحد من الصحابة، ولا التابعين ولا من بعدهم من أئمة الإسلام في القرون المفضَّلة، وهم أعظم محبة وإجلالاً، وأكثر توقيراً واتباعاً للنبيe، وهم على الخير أحرص، وإلى الفضيلة أسبق، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ولأرشدوا الأمة إلى فعله واستحبابه، مع قيام الداعي، وانتفاء المانع.

فاتقوا الله عباد الله، وعليكم باتباع هدي نبيكم الكريم صلوات الله وسلامه عليه، والسيرِ على نهج السلف الصالح، والرعيل الأول من الصحابة والتابعين، في الحذر من الابتداع في الدين، والإحداث في دين الله بما لم يشرعه.

المرفقالحجم
ملف 45حقيقة محبة رسول الله صلى الله عليه.docx36.02 كيلوبايت
 

الحمد لله الذي مَنَّ على المؤمنين( إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياتِه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )[آل عمران:164] أحمده سبحانه وأشكره على آلائه ونعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">