ذكرى الإسراء والمعراج

 

 

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، أحمده سبحانه واشكره على آلائه ونعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم لعلكم تفلحون، واشكروه سبحانه أن هداكم للإيمان، وشرَّفكم باتباع سيد الأنام، ورسول السلام، المبعوث رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، أرسله الله عز وجل بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أرسله على فترة من الرسل، وانقطاع من الوحي، فهدى به من بعد الضلالة، وبصَّر به من العمى، وفتح به قلوباً غلفاً، وآذاناً صمَّاً، وعيوناً عُمياً، وأيَّده الحقُّ سبحانه ونصره، حتى أكمل الدين، وأتمَّ به النعمة، وأقام به الحجةَ على الخلق أجمعين، فسعدت بذلك البشرية بعد شقائها، وأشرقت الدنيا برسالته ضياءً وابتهاجاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.

وكان من تأييد الحق سبحانه وتعالى لنبيه e، ونصرِه إياه، ما آتاه من الآيات البينات، والمعجزات الباهرات، الدالة على صدق نبوته، وعظيم منـزلته عند ربه.

وإن من أعظم تلك الآيات، وأكبر تلك المعجزات التي خُصَّ بها المصطفى e دون غيره من الأنبياء، إظهاراً لشرفه، وإعلاءً لقدره ومكانته، مُعجزةَ الإسراء والمعراج، تلك الخارقة العظمى، والمعجزة الكبرى في تاريخ البشرية، فلقد أُسري به e ليلاً من هذا المكان المبارك من بيت الله الحرام، بصحبة أمين الوحي جبريل عليه السلام، راكبين على البُراق إلى المسجد الأقصى المبارك، فحين وصلا إليه صلَّى رسول الله e فيه بالأنبياء إماماً، إظهاراً لشرفه وفضله عليهم، ثم عُرِج به إلى السماء، يستفتح له جبريلُ كلَّ سماء، فيرحِّبُ به ملائكتُها، ويَلقى في كل سماءٍ بعضاً من الأنبياء عليهم السلام، فيسلِّمُ عليهم ويردون عليه السلام، ويُقرُّون بنبوته، حتى وصل إلى السماء السابعة، وهناك التقى أباه إبراهيم خليل الرحمن، فسلَّم صلوات الله وسلامه عليه على أبيه، فرد عليه السلام، وأقرَّ بنبوته، وقال: مرحباً بالابن الصالح، والنبي الصالح، ثم رُفع إلى سدرة المنتهى، فغشيها من أمر الله ما غشيها من صنوف الألوان التي لا يستطيع أحد أن يصف ما فيها من الحسن والجمال، ثم رفع له البيتُ المعمور، وأخبره جبريل أنه يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك، من دخله منهم مرَّة لا يعود إليه أخرى.

ورأى e الجنَّة والنار، فرأى في الجنة من النعيم العظيم، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ورأى النار وما فيها من العذاب المهين الذي تشيب منه الولدان، وتقشعر لهوله الأبدان.

ثم إن الله عز وجل أوحى لنبيه e ما أوحى، وكلَّمه سبحانه بما شاء، وفرض عليه كلَّ يوم وليلة خمسين صلاة، فسأل e ربَّه التخفيف عن أمته، حتى جعلها الحقُّ سبحانه خمسَ صلوات، وأبقى أجر الخمسين وثوابَها، ونادى منادٍ: "قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي".

وأطْلع الحقُّ سبحانه نبيه e وأراه بعض آياته الدالة على بالغ قدرته، وإحاطة علمه، وعظيم ملكوته، كما قال عزَّ شأنه: ()ثم دنى فتدلى،فكان قاب قوسين أو أدنى،فأوحى إلى عبده ما أوحى،ما كذب الفؤاد ما رأى،أفتمارونه على ما يرى،ولقد رآه نزلة أخرى،عند سدرة المنتهى،عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى،ما زاغ البصر وما طغى،لقد رأى من آيات ربه الكبرى)[النجم: 8-18].

ثم نزل e إلى بيت المقدس، ثم عاد إلى مكة في ليلته، فلما أصبح أخبر قومه بما أجرى الله له من هذه المعجزة العظمى، وما رأى من الآيات الكبرى، فما ترون ردود الفعل عند الناس حينئذٍ، مسلِمهم وكافرِهم؟ فلقد أخبرهم e بما لا تحتمله العقول، ولا تكاد تصدق به القلوب، إلا من شرح الله صدره للإسلام، وأنار قلبه بنور الإيمان، كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه حينما أُخبر بقول النبي e قال قولته المشهورة: "إن كان رسول الله e قد قاله فقد صدق، وإنا لنصدِّقه فيما هو أبعد من هذا، إنا لنصدقه بخبر السماء". فمن يومئذ سمى رضي الله عنه بالصديق. 

أما المشركون فقد بالغوا في تكذيب النبي e لما سمعوا منه ما سمعوا، واشتدت ضراوتهم عليه، وسخريتهم منه، حتى قال أبو جهل لعنه الله: "ألا تعجبون مما قال محمد: يزعم أنه أتى البارحة بيت المقدس، ثم أصبح فينا، وأحدُنا يضرب إليه مطيته شهراً ذهاباً، وشهراً إياباً!".

ثم سأل المشركون رسول الله e سؤال تعنت واستهزاء، أن يصف لهم بيت المقدس، ليبرهن لهم على صدق مقولته، لعلمهم أنه لم يسبق له أن رأى بيت المقدس.

فجلَّى الحق سبحانه وتعالى لنبيه e بيت المقدس، وهو جالسٌ في الحِجر حتى عاينه، وأخذ يخبرهم عن أوصافه، والقومُ مندهشون لا يحيرون جواباً، ولا يستطيعون أن يردوا عليه مقالاً، حتى قال بعضهم: "أما النعت فوالله لقد أصاب فيه".

كما أخبرهم عليه الصلاة والسلام عن عيرٍ لهم رآها في مسراه ورجوعه، ووصفها لهم، وأخبرهم عن وقت قدومها إلى مكة، وكان الأمر كما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، فسُرَّ بذلك المؤمنون، وازدادوا به إيماناً ويقيناً، وثباتاً وتصديقاً.

أما المشركون فلم يزدهم ذلك إلا عتواً ونفوراً، وأبى الظالمون إلا كفوراً (وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون)[يونس: 101].

عباد الله: هذا بعض ما جاء به الخبر، وصح به الأثرُ عن رسول الله e من أمر الإسراء والمعراج، فيه عبرةٌ للمؤمنين، وتبصرة للمتقين، وذكرى للغافلين.

وإنه لحريٌّ بكل مسلم، وبأمة الإسلام جمعاء أن تستلهم من هذه الآية العظمى، والمعجزة الكبرى دروساً وعبراً، تحمل على التمسك بأهداب الدين القويم، والسيرِ على هدي النبي الكريم، والعملِ على رفع راية الإسلام، وإعلاءِ شأنه، والصبرِ والتضحيةِ في سبيل ذلك، فإنه لا سعادة لأمة الإسلام، ولا عزَّ ولا تمكين لها في الأرض إلا في ظل الإسلام، والتمسك بمبادئه الحقَّة، فهل ندرك أيها المسلمون حقيقة ما يجب علينا نحو ديننا الحنيف، وأمَّتِنا الإسلامية المستضعفة اليوم، فيؤدي كلٌّ ما يجب عليه نحو دينه، إعلاءً لشأنه، ورفعاً لمناره، ومناصرةً لإخوانه المسلمين في شتى بقاع الأرض، حتى يعلو صوت الحق على الباطل، ويندحرَ الظلمُ وأهلُه، إن ذلك لحقٌّ على أمة الإسلام على مستوى الأفراد والشعوب والحكومات، كلٌّ على قدر الطاقة منه والاستطاعة( ولَينصُرَنَّ اللهُ من ينصره إن الله لقوي عزيز) [الحج:40].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنُرِيَه من آياتنا إنه هو السميع البصير)[الإسراء:1].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى، وآلائه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله نبيه المصطفى، وحبيبه المجتبى، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، وبدور الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقاته، واعملوا جاهدين في التمسك بدينكم، والاهتداءِ بهدي نبيكم e، والسير على ما كان عليه سلف هذه الأمة وخيارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أئمة الإسلام المتبوعين، في التمسك بالسنة، والحذر من البدعة.

ألا وإن مما أحدثه بعض الناس في هذا الشهر: الاحتفاءَ بليلة سبع وعشرين منه، وإحيائَها بعبادات معينة، وتخصيصَها بأنواع من الأذكار والطاعات، اعتقاداً أن لتلك الليلة فضيلةً وشرفاً، وكلُّ ذلك يا عباد الله مما أُحدث في الدين، ومما ليس له في الشرع أصلٌ صحيح، كما نبه على ذلك العلماء المحققون، فقد قال الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله: "لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة، حديث صحيح يصلح للحجة". وقال رحمه الله: "وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمامُ أبو إسماعيل الهرويُّ الحافظ، وكذلك رويناه عن غيره".

كما أنه لم يتفق أهلُ العلم على تعيين الشهر الذي وقع فيه الإسراء والمعراج، تبعاً لاختلاف الروايات في ذلك، فقد جاء في بعض الروايات أنه كان في شهر ربيع الأول أو الثاني، وفي بعضها أنه كان في رجب، وفي أخرى أنه في رمضان، وفي غيرها أنه كان في شوال، فلم يُتَّفق على تعيين الشهر، فضلاً عن تعيين الليلة التي كان فيها الإسراء والمعراج، ولو صحَّ معرفة ذلك لما أوجب تعظيمَها، والاحتفاءَ بها، وتخصيصَها بأنواع من العبادة والطاعة إلا بدليل من الشارع، ولم يرد عن النبي e تخصيصُها بشيء من ذلك، ولا عن خلفائه الراشدين، ولا عن غيرهم من الصحابة الأكرمين، ولا عن أهل القرون المفضلة، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فهم على الخير أحرص، وإلى الفضيلة أسبق.

فاتقوا الله عباد الله، وعليكم بلزوم السنة، واتباع الحق، والإعراض عما سواه، وإنْ تناقلته بعض الكتب، واستحسنه بعضُ أهل العلم، لأن أمور العبادة توقيفية عن الله ورسوله e، لا مجال فيها للرأي، ولا مدخل فيها للاستحسان، بل لابد فيها من القدوة والأسوة بالمعصوم e، وقد قال عزَّ وجل(لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)[الأحزاب:21].

المرفقالحجم
ملف 48ذكرى الإسراء والمعراج.docx34.1 كيلوبايت
 

 

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، أحمده سبحانه واشكره على آلائه ونعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">