تحقيـق التوحيـد

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله خير من أخلص لله الدين، وسدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك وبَلَّغ البلاغ المبين، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى ربكم حق تقاته، وأخلصوا له الدين وحده ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

عباد الله: توحيد الله عز وجل، وإفراده بالعبادة وإخلاص الدين له وحده أعظمُ الواجبات على المكلفين، ما تقرب امرؤ إلى ربه بمثله، وبدونه لا تصح من العبد طاعة، ولا يتقبل منه عبادة، بل إن حاجة العباد إلى توحيد الله فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، فلا حياة للقلوب، ولا نعيم ولا طمأنينة للنفوس إلا بمعرفة ربها ومعبودها، بأسمائه وصفاته وأفعاله، وسعيها فيما يقربها إليه وحده دون سواه.

من أجل توحيد الله عز وجل وإخلاص الدين له خلقت الجن والإنس، وأرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، ورفعت رايات الجهاد، وقامت سوق الجنة والنار، ونصبت الموازين، ونشرت الدواوين، وانقسم الناس إلى فريقين: مؤمنين وكفار، ومتقين وفجار.

أفضل الكلام كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، ما تلفظ أحد بأفضل منها، هي قاعدة التوحيد وأصله، وعليها مدار الإيمان، وبها يتحقق الإسلام، لما تضمنته من النفي والإثبات، نفياً لكل آلهة دون الله، وإثباتاً لإلهية الحق وحده دون سواه.

ما عُبد الرب جل جلاله بمثل إخلاص الدين له، وتوحيدِه في المعرفة والإثبات، وفي القصد والطلب، وتحقيق ذلك يقتضي الإقرار بالربوبية للحق عز وجل في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، وانفراده بالتصرف في الكون، وأن الأمر له وحده دون سواه (قل إن الأمر كله لله)[آل عمران:154].

بتوحيد الله عز وجل يؤمن العبد بكل ما جاء في الكتاب والسنة من أسماء الله تعالى وصفاته الدالة على وحدانيته وعظمته، ويصفه سبحانه بكل ما ثبت له من صفات الجمال والكمال وصفاً يليق بجلاله وعظمته من غير تمثيل ولا تشبيه، ولا تكييف ولا تأويل، ولا تحريف ولا تعطيل كما قال عز وجل: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)[الشورى:11]، وقال عز شأنه: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون)[الأعراف:180].

توحيد الله عز وجل يستلزم الإقرار بالإلهية المطلقة له دون سواه، وإفراده بالطاعة، وصرف جميع أنواع العبادة له، إذ هو وحده المستحق أن يُعبد، وأن يُركع له ويُسجد، وأن يُدعى ويُسأل، وأن يُخاف ويُرجى، وأن يُستعان به ويُستغاث، وإليه وحده الملجأ في الشدائد والكربات ( أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون )[النمل:62]، فمن وحَّد الله تعالى في ربوبيته وإلهيته، وفي أسمائه وصفاته، فقد استكمل الإيمان، وعبد ربه حق عبادته.

أيها المسلمون: لقد بعث الله تعالى نبيه محمداً e كما بعث من قبله من المرسلين لإقامة التوحيد، وإخلاص الدين لله، والقضاء على معالم الشرك والوثنية حتى لا يعبد إلا الله، كما قال سبحانه: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )[الأنبياء:25]، فقام صلوات الله وسلامه عليه بالدعوة إلى دين الله، وإخلاص العبودية له دون سواه، وكسَّر الأصنام، وحطَّم الأوثان، وأبطل جميع الآلهة التي كانت تعبد من دون الله، ولم ينتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى حتى أقام الله تعالى به الدين، وأرسى به قواعد التوحيد، وجدد به الملة الحنيفية.

غير أن من عظيم الأسى يا عباد الله أن بعضاً من المسلمين لما طال عليهم الأمد، ضعف تحقيق التوحيد في نفوسهم، وسرت إلى قلوبهم شوائبُ لوَّثت عقيدةَ التوحيد، وكدَّرت صفاءها، وزعزعت أصولها، حتى صرفوا أنواعاً من العبادة، وصنوفاً من الطاعة لغير الله تعالى، يقصدون أصحاب القبور، وأضرحة الموتى، ويؤمُّون المشاهد والمقامات، ويعكفون عندها، ويتمسحون بأركانها وأعتابها، ويسألون أصحابها ما لا يُسأل إلا الله عز وجل من قضاء الحوائج وتفريج الكربات، ورفع البأساء والضراء، ودفع البلاء، ويقدمون لها النذور ويذبحون لها القرابين، في صنوف من الغفلة عن الدين الحق، وضرب من ضروب الإشراك بالله إذ أن العبادات كلها لا يجوز أن تصرف لأحد سوى الله كائناً من كان، لا لملك مُقرَّب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي من الأولياء، أو صالح من الصلحاء، فقد قال الله تعالى مخاطباً صفوة الخلق e: ( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون)[الأعراف:188]، وقد قال الله عز وجل: ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين) [يونس:106]، وقال سبحانه:( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)[الجن:18]، وقال عز شأنه: ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين([الأنعام:162-163].

عباد الله: إن أعظم الأسباب التي أودت ببعض هذه الأمة إلى الوقوع في براثن الشرك والوثنية: الغفلة عن حقيقة الدين الخالص، وتعظيم الموتى، والبناء على القبور، واتخاذ المساجد والسرج عليها، والغلو في أصحابها، فذلك من أعظم وسائل الشرك وطرائقه، ومن أقوى مداخل الشيطان على بني الإنسان، ليصدهم عن الإيمان الخالص بالله تعالى، ويوقعهم في حبائل الشرك، ولوثات الوثنية، حتى ارتكس فيها بعض المسلمين على الرغم مما جاء عن رسول الهدى e من النهي البليغ عن ذلك، والوعيد الشديد لفاعليه باللعن والطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى.

روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله e قال: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله e زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن رسول الله e قال: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إنَّ من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد).

وما فتئ أئمة الإسلام، وعلماؤه المخلصون في كل زمان ومكان، يحثون الأمة على الإيمان الصادق، والتوحيد الخالص، ويحذرون من الوقوع في براثن الشرك ووسائله، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله e أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه e لعن من اتخذها مساجد، فمن أعظم المحدثات، وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها".

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: " وما زال الشيطان يوحي إلى بعض الناس ويلقي إليهم: أن البناء والعكوف على القبور من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من مرتبة الدعاء عندها إلى مرتبة الدعاء بها، ثم لايزال بهم حتى ينقلهم إلى مرتبة دعائهم من دون الله، وسؤالهم الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبورهم أوثاناً تعلق عليها القناديل والستور، ويطاف بها وتُقَبَّل، ويتمسح بها، ويذبح عندها، ثم يتطور إلى أن يدعوا الناس إلى عبادتها واتخاذها عيداً ومنسكاً".

فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا له الدين وحده، ولتحذروا وسائل الشرك وطرائقه، ولتعبدوا الله تعالى حق عبادته ولا تشركوا به شيئاً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطميرإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير)[فاطر:13-14].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصاً له الدين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: إن أهم ما عني به العلماء المخلصون، والدعاة الناصحون: بيان حقيقة الدين، والدعوة إلى إخلاص العبادة والطاعة لله رب العالمين، والتحذير من وسائل الشرك، وشوائب الوثنية من البدع والمحدثات في الدين، فإنه لن يتحقق لأي دعوة من الدعوات الإسلامية القبول، ولن يحصل بها النفع العام، سواء أكانت على مستوى الأفراد أو الجماعات، إلا حينما تُعنى بهذا الأصل العظيم الذي قام عليه دين الإسلام، وهو الدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالطاعة والإنابة، وتطهير الأذهان مما علق بها من شوائب الشرك والوثنية، وأن تجعل ذلك أول غاياتها، وأعظم مقاصدها، ونهاية آمالها حتى يعبد الله وحده، ويخلص له الدين
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )[البينة:5].

فلتتقوا الله أيها الدعاة إلى الله، ولتعنوا ببيان أصل الإسلام وحقيقة الإيمان، ودعوة الناس كافة إليه، فلن تجتمع القلوب، وتتآلف النفوس، وتتحد كلمة الأمة إلا تحت راية التوحيد وكلمة الإخلاص.

 

المرفقالحجم
ملف 1تحقيق التوحيد.docx34.47 كيلوبايت
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله خير من أخلص لله الدين، وسدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك وبَلَّغ البلاغ المبين، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">