وسطية الإسلام واعتدال أحكامه وتشريعاته
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى، وآلائه الكبرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الأكرمين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإن تقوى الله عز وجل هي الحصنُ الحصين من المخاوف، والدرعُ الواقي من المهالك، من اتصف بها حقاً وصدقاً، وعمل بمقتضاها طاعة لله وإخلاصاً، جعل الله له فرقاناً يُفرِّق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم)[الأنفال:29].
عباد الله: إن من أمارة تحقيق التقوى، والاتصاف بها ظاهراً وباطناً: التمسكَ بكتاب الله الكريم، والسيرَ على هدى الرسول الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وما كان عليه صحابته الأكرمون في الاعتقاد والعمل، فلقد كانوا رضوان الله عليهم أجمعين على الصراط المستقيم، والهدي القويم، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أولئك أصحاب محمد e أبرُّ هذه الأمة قلوباً وأعمقُها علماً، وأقلُّها تكلفاً، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم".
ولقد سار مَن بعدهم من سلف هذه الأمة من التابعين، وأئمةِ الإسلام المشهورين، وعلمائه البصيرين عبر عصور الإسلام المختلفة على ذلك الهدي القويم، والمسلك الرشيد الذي هدى إليه القرآن الكريم، وأرشد إليه رسول الهدى e، من غير تفريط أو تقصير، أو إفراط أو غلو، فإن كلا هذين المسلكين غيرُ سديد، بل انحراف عن جادة الحق والصواب، ذلك أن منهج الإسلام الصحيح يقوم على الوسطية والاعتدال، وتلك فضيلة تميزت بها شريعة الإسلام الحنيفية السمحة، وهو الحق والعدل الذي يجب أن يسلك، فلا جفاء للدين ولا غلو فيه.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "فما أمَر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه، والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيعٌ له، فالغالي فيه مضيعٌ له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد".
أيها المسلمون: إن دين الإسلام، وهو دينُ الوسطية والاعتدال، بريءٌ من الانحراف وأهله، سواءٌ الجانح منهم إلى التفريط والتقصير، أو الجانح إلى الإفراط والغلو، فلقد ذم الله عز وجل المعرضين عن الحق، المتبعين للأهواء والشهوات، وتوعدهم سبحانه بقوله: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)[طه:124-127]، وقال عز شأنه: (فخلف من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً)[مريم:59]، كما ذم الله عز وجل الغالين في الدين، المجاوزين للحدود فقال سبحانه: (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)[البقرة:229].
وجاء التنـزيل الكريم بالأمر بالاستقامة على طاعة الله، ولزوم أمره، والتحذير من الطغيان والغلو والزيادة، كما قال عز شأنه: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير)[هود:112].
فهديُ الإسلام بعيدٌ عن الغلو والتنطع، وإن حمل عليه رغبةٌ في الخير، ومحبة للدين، إلا أنه عمل غير رشيد، ومنهج غير سديد، لمخالفته الكتاب والسنة، وهما الميزان لصحة المنهج، وسلامة المعتقد، وصواب العمل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتابَ الله وسنتي).
وقد جاء التحذير من الغلو في الدين والتنطع فيه، مقروناً بالوعيد الشديد لفاعله، فقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله e قال: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)، قال الإمام النووي في بيان معنى الحديث: "أي المتعمقون، المغالون المجاوزون الحدودَ في أقوالهم وأفعالهم".
وروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله e قال: (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو).
عباد الله: إن المستقرئ للتاريخ يدرك أنه ما حصل من انحرافات عقدية أو عملية من بعض الأفراد، والطوائف الإسلامية منذ العصور الإسلامية الأولى إلى وقتنا هذا، لا سيما ما حصل من الخوارج ومن تأثر بهم، وما كان لتلك المعتقدات المخالفة لمنهج الحق من الأثر السيء في الأمة، إلا بسبب الغلو في الدين، والتجاوز لحدوده، وعدم فهم النصوص الشرعية على الوجه الصحيح الذي فهمه سلفُ هذه الأمة، ولقد وصف رسول الله e الخوارج بكثرة العبادة، والمبالغةَ في الطاعة، إلا أن هذا لم يكن دليلاً على صحة منهجهم، وسلامة معتقدهم، بل أمر النبي e بقتالهم، درءاً للأمة عن أضرارهم.
روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله e قال في وصف الخوارج: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة).
قال الإمام النووي تعليقاً على قوله e: (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) المراد:"أنهم ليس لهم فيه حظٌ إلا مروره على ألسنتهم، فلا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم" فالغلو في الديانة هو الذي أوردهم المهالك، وأوقعهم في الردى، وألحق بالأمة أضراراً عظمى، ومفاسد كبرى، أشار إليها النبي e بقوله في وصفهم: (يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية).رواه مسلم في صحيحه.
إن هذا الانحراف العقدي من أكبر الأسباب التي أدت إلى نشوء الفتن بين المسلمين عبر عصور الإسلام المختلفة، وهو الذي بدد وحدتهم، وأودى بالأمة إلى التفرق والاختلاف، والنـزاع والشقاق، وعدم الوئام بين القادة والشعوب، حتى تسلط عليهم الأعداء الذين ألحقوا بهم أسوأ الأضرار، وأنكى الأخطار، لا سيما ما يحدث في عصرنا الحاضر من تسلط قوى البغي والعدوان على الإسلام وأهله، فكم من شعوب مسلمة أُزهقت أرواحُها!، واستبيحت حرماتُها!، وشُرِّدَت عن أوطانها!، وأذيقت أنواعاً من الظلم، وأصنافاً من الاضطهاد في أنحاء مختلفة من المعمورة دون أن يكون للمسلمين ردودُ فعل مؤثرة، رغم تلك الأحداث المؤلمة، والمآسي المحزنة على الإسلام وأهله.
وإنه لا منقذ لأمة الإسلام مما هي فيه من ضعف وهوان، وتفرقٍ واختلاف إلا بالعودة الصادقة إلى الإسلام، واستلهام عقائده الصحيحة، ومبادئه الحقة، على مستوى الأفراد والشعوب والحكومات، حتى تجتمع كلمة الأمة، فتقوى بذلك شوكتُها، ويكون حقها بين الأمم محفوظاً، وجانبها بين الدول مرهوباً: (ولَيَنْصُرَنَّ اللهُ من ينصُرُه إن الله لقوي عزيز)[الحج:40].
فاتقوا الله أمة الإسلام، واعتصموا بحبل الله المتين، وتمسكوا بهدي نبيكم الأمين، ففيهما العصمة من الضلالة، والسلامة من الغواية.
واتقوا الله يا شباب الإسلام في أنفسكم وأمتكم، واسلكوا سبيل المتقين، وانهجوا نهج الصالحين الذين ساروا على الصراط المستقيم، والهدي القويم، دون جنوح إلى الإفراط أو التفريط، واستعينوا على فهم منهج السلف الصالح بأخذ العلم من منابعه الصافية، ومصادره المعتمدة لأئمة الإسلام المعتبرين، والتلقي للعلوم الشرعية عن العلماء الراسخين، والفقهاء البصيرين الذين عُرفوا بالعلم النافع والعمل الصالح، ووُفقوا لسلامة المنهج وصحة المعتقد، واحذروا الأفكار المنحرفة، والاتجاهات المشبوهة، وإن تظاهر أصحابها بمظهر النصح وإرادة الخير، فالخير كل الخير في اتباع ما كان عليه السلف الصالح من الاعتقاد والعمل، ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصَّة واعلموا أن الله شديد العقاب)[الأنفال:24-25].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى لعلكم تفلحون، والتزموا بشرع الله ودينه، واحذروا الإعراضَ عن طاعة الله عز وجل، والتهاونَ والتقصيرَ فيما أوجب عليكم من الواجبات، وعليكم بالاستقامة على نهج الحق والهدى، دون مبالغة أو تشديد، فإن التشديد على النفس، والمبالغة والتنطع في الاعتقاد أو العمل، ليس مقياساً لصحة الديانة، وسلامة المعتقد، بل إن ذلك ضربٌ من ضروب الغلو في الدين، نهى عنه الدين الحنيف، وأبان عليه الصلاة والسلام أن عاقبة صاحبه إلى الانقطاع، وأنه ما من مشادٍّ لهذا الدين إلا ويُغلب ويَنقطع.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي e قال: (إنَّ هذا الدين يسرٌ، ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا واستعينوا بالغَدْوة والرَوْحة وشيء من الدُّلْجة).
قال الإمام الحافظ ابن حجر: "والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق إلا عجز وانقطع".
وقال الإمام ابن رجب: "والتسديد العمل بالسداد، وهو القصد والتوسط في العبادة، فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه".
فاتقوا الله عباد الله، والتزموا الاستقامة على نهج الله القويم، والتمسك بهدي النبي الكريم e، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي رسول الله e، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يد الله مع الجماعة، ومن شَذَّ شَذَّ في النار.
المرفق | الحجم |
---|---|
2وسطية الإسلام واعتدال أحكامه وتشريعاته.docx | 34.22 كيلوبايت |