الاعتصام بهدي القرآن
(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً)[الكهف:1] أنزله كتاباً مباركاً، معجزاً بيانه، شاملاً تبيانه، ساطعاً برهانه، أحمده سبحانه وأشكره حمد المستزيد من إفضاله وإنعامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسع كل شيء رحمة وعلماً، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء، والسادة الحنفاء، ومن سار على هديهم واقتفى، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإن بها العصمةَ من الضلالة، والسلامةَ من الغواية، وهي السبيل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
عباد الله: نعمةٌ عظمى تتضاءل أمامها جميع النعم، وتقصر دونها الفضائل والمنن، تفضل بها المولى جل وعلا على العباد، وأكرم بها الثقلين الإنس والجان، إنها نعمة إنزال القرآن الكريم على سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، تلكم النعمة العظمى، والمعجزة الكبرى التي أنقذ الله تعالى بها البشرية من دركات الظلام، ودياجير الشكوك والأوهام، نزل هذا القرآن يحمل النور والهدى، والرحمة والشفاء، نوراً ساطعاً يبدد الظلمات والضلالات، وبلسماً شافياً من أدواء الشبهات والشهوات، فهدى الله به من الضلالة، وبَصَّر به من العمى، وفتح به قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صمَّاً (قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)[المائدة:15-16]، أنزله تعالى بلسان عربي مبين، بلغ الغايةَ في الفصاحة، والنهايةَ في البلاغة، لا يرقى إليه كلام البشر، ولا تحيط بأسراره العقول والفكر (وإنه لتنـزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين)[الشعراء:192-195].
تتجلى في كل وقت أسراره وحِكَمه، وتسطع في كل أفق أنواره، وتظهر في كل زمان معجزاته وآياته( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)[فصلت:53].
هدى إلى أقوم المسالك، وأعدل المناهج، واشتمل على كل ما يحتاج إليه البشر في العقائد والمعاملات، وفي الأخلاق والآداب، وفي السياسة والاجتماع، فَصَّل الأحكام، وأبان الحقوق، وشرع الحدود، وهدى للتي هي أقوم في جميع الشؤون ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً)[الإسراء:9]، أمر فيه عز وجل وزجر، وبشر وأنذر، وذكر المواعظ ليتذكر، وقص أحوال الماضين ليعتبر، وضرب الأمثال ليتدبر، وصفه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وصف الخبير بآياته ودلالاته، العالمِ بحكمه وأسراره، فقال رضي الله عنه:"كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرُّشد فآمنَّا به ولن نشرك بربنا أحداً)[الجن:1-2]، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".
قيض الله عز وجل لهذا القرآن رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تلقوه عن الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه غضاً طرياً، مشافهةً من غير واسطة، فآمنوا به حق الإيمان واتبعوه، وطبقوا تعاليمه، والتزموا أحكامه، وكانوا متفاعلين معه في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه وأمثاله، وانعكست أخلاقه وآدابه على تصرفاتهم وسلوكهم، حتى كانوا صورة حية لهداية القرآن، متأثرين في ذلك برسول الله e الذي وصفته عائشة رضي الله عنها بقولها: (كان خُلقه القرآن) فكانوا رضوان الله عليهم يصدرون في كل أحوالهم عن توجيه القرآن ودلالاته، حتى أرهف ذلك حسَّهم، وهذَّب أخلاقهم، وصفَّى وجدانهم، وبعث في نفوسهم الهمم والعزائم لبث هداية القرآن، ونشر أنواره في الآفاق.
فانطلقوا في أرجاء الأرض يدعون إلى دين الحق، مستهدفين من يحول بينهم وبين ذلك من كل جبار عنيد، أو شيطان مريد، حتى زلزلوا بقوة إيمانهم وصدق عزائمهم عروش الأكاسرة والقياصرة، وحرروا الشعوب المستضعفة المقهورة، وأبدلوها بالذل عزاً، والخوفِ أمناً، وبالاستكانة إباء، ثم سار على هديهم من جاء بعدهم في عصور الإسلام الزاهية، حتى امتدت دولة الإسلام الكبرى، واتسعت رقعتها شرقاً وغرباً في زمن قياسي بفضل الإيمان بالقرآن، ورفعِ رايته في الآفاق، حتى أصبح أهل الإسلام قادةَ العالم في العلم والحضارة، والعزة والكرامة، وصارت لهم الهيمنة والسيادة على العالم قروناً متطاولة.
ولكن حين طال الأمد، وقست القلوب، خلف في أعقاب هذا الزمن خَلْف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وتعاموا عن هداية القرآن، وهجروا تلاوته، والعملَ به، وانقادوا وراء التقليد للأعداء، والتبعية لهم، حتى بلغ الأمر إلى ترك الحكم بما أنزل الله في كثير من بلاد الإسلام، واستبدالِ ذلك بقوانين وضعية، وأنظمة بشرية، والله عز وجل يقول: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسنُ من الله حُكماً لقوم يوقنون)[المائدة:50].
ولقد بلغ من الانحراف عن هدي القرآن أنه إذا تُلي على كثير من المسلمين، أو ذُكِّروا بآياته خروا عليها صمَّاً وعمياناً، واستعاضوا عن سماع القرآن بأصوات القيان ومزامير الشيطان، وقصرت عند كثير منهم تلاوته عند حدوث المصائب، وقد تفتتح به البرامج والاحتفالات وبه تختتم، وما يدور بين الافتتاح والاختتام معظمه مناهضٌ لهدي القرآن، حتى صدق على كثير منهم قول الله عز وجل: ( وقال الرسول يا ربِّ إنَّ قومي اتَّخذوا هذا القرآن مهجوراً)[الفرقان:30].
فلما صار واقع كثير من المسلمين كذلك، أصبحت النكبة على أهل الإسلام نكبةً عظمى، حيث تمكن الأعداء من التحكم في كثير من شؤون المسلمين السياسية والاقتصادية وغيرِها بما يخدم مصالح أولئك الأعداء، ويحقق أهدافهم، حتى استطاعوا الاستيلاء على كثير من مقدرات المسلمين، والاحتلالَ لبعض بلادهم، والإيقاعَ بأهلها صنوفاً من العذاب، وألواناً من الاضطهاد، كما هو حال إخواننا في الأرض المباركة فلسطين منذ نصف قرن من الزمان، وحالُ إخوان لنا في بلاد أخرى، وأصقاع شتى، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وهو المستعان على القوم الظالمين.
فهل من عودة صادقة أيها المسلمون إلى استلهام هدي القرآن الكريم، والتمسك بحبل الله المتين، والسير على صراط الله القويم الذي لا يضل سالكه، لأنه طريق واضح لا غموض فيه، ومستقيم لا التواء فيه ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتَفَرَّقَ بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)[الأنعام:153].
فاتقوا الله أمة الإسلام، وتمسكوا بهذا القرآن الكريم، والذكرِ الحكيم الذي هو سر عزِّكم، ومصدر فخرِكم، وسبيلُ سعادتكم، اعملوا به مخلصين، وارفعوا رايته مغتبطين، وحكِّموه في جميع الشؤون، وربُّوا عليه الناشئة النابتة، والأجيال الصاعدة، حتى يسلكوا سبل الهدى والرشاد، ويقتفوا أثر الصالحين الأبرار، ليحققوا لأنفسهم السعادة في الدنيا والآخرة، ولأمة الإسلام ما تصبوا إليه من تقدم ورقي، وعزة وسعادة، ورفعة وسيادة.
حقق الله ذلك وأقر أعينَ المؤمنين باعتصام أمة الإسلام بكتاب الله الكريم، والسيرِ على خطى السلف الصالحين، إنه تعالى خير مسؤول وأعظم مأمول.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصُّدور وهدى ورحمةٌ للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )[يونس:57-58].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بكتاب ربكم، وافرحوا بهدايتكم إليه، واحذروا هجره والإعراضَ عنه، فإن ذلك من أكبر أسباب الزيغ والضلال، والذل والهوان، فإنه ما أصيبت أمة الإسلام فيما أصيبت به من محن ورزايا في هذه العصور المتأخرة إلا حين قلَّت عنايتها بكتاب ربها، وضعف تأثيره في نفوس كثير من أبنائها، حتى نشأت ناشئة من بني الإسلام لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه، وحتى تسرب إلى عقول بعض بني الإسلام ما يبـثه الأعداء من أفكار مشبوهة، واتجاهات مضللة، ودعوات منحرفة، يتلقفها بعض أهل الأهواء والشهوات، ممن ضعف فيهم الإيمان، وقلَّ حظهم من هداية القرآن، فأخذوا يجاهرون بتلك الأفكار والدعوات، وينادون بها، ويدعون إليها، غير عابئين بخطورتها، ولا مبالين بسوء عواقبها، رغم مخالفتها لهدي القرآن، وتعاليم الإسلام( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)[محمد:24].
فاتقوا الله عباد الله، واعتصموا بهدي القرآن، واحذروا كل ما خالف ذلك من أفكار وافدة، ودعوات منحرفة، وليتق الله تعالى أصحابُ تلك الدعوات، وليحذروا ما هم عليه من مسالك منحرفة، مخالفةِ لمنهج الحق والهدى، فلقد توعد الله عز وجل المخالفين لأمره بقوله:(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليم )[النور:63].
المرفق | الحجم |
---|---|
4الاعتصام بهدي القرآن.docx | 33.5 كيلوبايت |