الحث على تحقيق العدل
الحمد لله الذي أقام بالعدل نظام ملكه، وثَـبَّت به أركان شريعته، وجعله دعامة السلام، وسبيل السعادة بين الأنام، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، يجازي على العدل بِرًّا وإحساناً، وعلى الظلم والجَور عذاباً وهواناً، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، خير من رفع للعدل مناراً، وأعلى له شعاراً، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم لعلكم تفلحون، فإن تقواه سبحانه زاد المؤمنين، وشعار الصالحين، وسبيل السعادة في الحياتين، إنها تقود صاحبها إلى الخير والفضيلة، وتحمله على إقامة الحق والعدل الذي قامت به السموات والأرض، فالعدل أساس صلاح الأمة، وسعادةِ المجتمع، فما سادت أمة إلا بالعدل، إذ هو نظامُ الوجود، وقاعدةُ الحياة الدنيا، وركنها الأقوى، به انتظام حياة الأمم والشعوب، وضمانُ الحقوق، واطمئنانُ النفوس، وبه ينعم العباد، وتسعد البلاد، ويعمُّ الخير والرخاء، ويسود الأمن و الاطمئنان، وتحل الألفة والمودة بين الأنام، فما أعظم أثرَه، وما أجل نفعَه، ولذا أمر الحقُّ سبحانه بإقامته وتحقيقه على المستوى العام والخاص، على كل حال، وفي كل مجال، يقول عز وجل:( إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان)[النحل:90]، وقال عز شأنه: (وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)[الحجرات: 9]، فحقٌّ على كل مسلم موقنٍ بلقاء ربه: أن يتصف بالعدل ويحققَه في خاصة نفسه، ومع غيره.
فَعَدْلُه في حق نفسه: حملها على الصلاح والاستقامة، والسيرُ بها على نهج الحق والهداية، وحفظُها عن الوقوع في المآثم، والتردي في أوضار الفواحش والرذيلة، والعملُ على تزكيتها بالإيمان وصالح الأعمال، على سَنَن المتقين، ونهج الصالحين، بمسلك العدل الذي هو وسطٌ بين طرفين ذميمين، فلا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط، فالغلو جور، والتقصير ظلم، والحق والعدل وسط بين هذين المسلكين (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير)[هود:112]، أما العدل مع الغير، فيتحقق بإعطاء كلِّ ذي حقِّ حقه بوحي من شرع الله القويم، عدلٌ لا يميلُ مع الأهواء، ولا يتأثر بمودة أو بغضاء (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً)[النساء:135]، ويقول عز وجل: (ولا يجرمنَّكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)[المائدة:8]، وقال بعض أهل الحكمة: "العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق، ونصبه للحق، فلا تخالفْه في ميزانه، ولا تعارضْه في سلطانه، واستعن على العدل بخَلَّتين: قلةِ الطمع، وكثرةِ الورع".
ويعظم أمر العدل يا عباد الله، ويجل شأنه على قدر المسؤولية، وعظم الأمانة، فعلى ولاة الأمور من العدل ما ليس على غيرهم، لما حُمِّلوا من أمانةٍ عظمى، ومسؤوليةٍ كبرى، فمن العدل الواجب عليهم إقامةُ شرع الله ودينِه في البلاد وعلى العباد، والحكمُ بما أنزل الله، وتنفيذُ أحكامه وحدوده، وتأمينُ البلاد من عدوان المعتدين، وقطعُ دابر الفساد والمفسدين، ورعايةُ مصالح الأمة، والتفقدُ لأحوالها، والسعيُ بما يُسعِدُ العباد في المعاش وفي المعاد، ويحققُ لهم الخير والاستقرار، وينشرُ الأمنَ والاطمئنانَ في البلاد، والنهوضُ بها في كل مجالٍ من مجالات الحياة، بما يعلي شأنها، ويُعَزِّزُ كيانها.
وإنَّ على من دون ولاة الأمور، من ذوي الولايات الخاصة من القضاة والأمراء على البلدان والوزراء، وكلِّ من كلف بعمل، أو أنيطت به مصلحةٌ من مصالح البلاد والعباد: أن يحققَ العدل ويلتزمَ به في حدود عمله، وفي دائرة اختصاصه، فإنما تستقيم أحوال العباد، وتنتظم أمور البلاد، بالسعي في تحقيق ذلك بكل صدقٍ وإخلاصٍ، وعدلٍ وإنصافٍ.
فإن العبء الذي وضعه الإسلام على عاتق من ولي أمراً من أمور المسلمين لجسيم، غير أنه بقدر القيام به يكون له عند الله تعالى مقام رفيع، وعند الناس شأن كبير، فلقد أعدَّ الله عز وجل للولاة المقسطين جزاء عظيماً في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ففي الدنيا يحفظهم الحق سبحانه بحفظه، ويكلؤهم بعنايته من كيد الكائدين وشرِّ الأعداء الحاقدين، ويمكِّنُ لهم في الأرض، ويضعُ لهم القبول عند الخلق، أما في الآخرة فلهم الفضل العظيم، والنعيم المقيم في جوار الرب الكريم.
فقد روى الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله e قال: (يومٌ من إمام عادلٍ أفضلُ من عبادة ستين سنة، و حدٌّ يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحاً)، وروى البخاري ومسلم أن رسول الله e قال: ( سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه)، وعدَّ منهم: (الإمامَ العادل).
وهذا الفضل العظيم إنما يحصل لولاة العدل، الذين يعملون بالحق، ويقومون على الرعية بالقسط.
أما من ظلم وطغى وبغى، وأعرض عن حكم الله وشرعه، وخان أمته، ولم يحقق العدل في رعيته، فقد جاء الوعيد الشديد في حقه على لسان رسول الهدى e بقوله: (ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة). رواه البخاري ومسلم، وفي رواية له: (ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة).
أما الرعية يا عباد الله، فمن العدل الواجب عليهم أن يتعاونوا مع ولاة الأمور ونوابهم على الأعمال، في تحقيقِ العدل، ورفعِ لوائه، وإسداءِ النصح لهم، ومحبةِ الخير لهم، والصدقِ معهم، والسمعِ والطاعةِ لهم بالمعروف، حفاظاً على وحدة الأمة، وحمايةَ لها عن التفرقِ والاختلاف، والنـزاعِ والشقاقِ الذي قد يودي بالأمة إلى شر عظيم، وفساد عريض، روى البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي e قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).
ولقد درج سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الإسلام المتبوعين على هذا المعتقد الحق، وما خالف في ذلك مخالفٌ إلا لهوى في نفسه، أو انحرافٍ في معتقده.
أيها المسلمون: إن من أنواع العدل وضروبه مما جاء الشرع القويم بالتأكيد على رعايته: العدلَ في حقِّ الأسرة، لأنها اللبنة الأولى للمجتمع، وبصلاحها وسعادتها، يصلح المجتمع ويسعد.
فواجب رب الأسرة تحقيقُ العدل بين أفراد الأسرة، والمساواةُ بين الأولاد في المعاملة، وفي العطايا والهبات، وأن لا يُفَضِّل ذكراً على أنثى، ولا كبيراً على صغير، بل يعاملهم بالعدل والإحسان على حد سواء، فقد روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (تصدق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي: لا أرضى حتى يشهد رسول الله e، فانطلق أبي إلى رسول الله e يُشهِدُه على صدقتي، فقال له رسول الله e: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) وفي لفظ أنه قال: (فلا تُشهدني فإني لا أشهد على جَوْر).
ومن العدل على رب الأسرة إن كان ذا زوجات: أن يعدل بينهن في القَسم والنفقة، وأن لا يحمله الهوى تجاه إحداهن على تفضيلها على سواها، والظلمِ لغيرها، فلقد جاء الوعيد الشديد في حقِّ من فعل ذلك فيما رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي e قال: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل).
فاتقوا الله أيها المسلمون وكونوا قوامين بالقسط والعدل، وحققوه في أنفسكم وأهليكم وما وليتم، يكتب الله لكم العزَّ والتمكين، والرفعةَ والسعادةَ في الدنيا والآخرة، فقد روى مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله e: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عزَّ وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً)[النساء: 135].
نفعني الله و إياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أمر بالعدل في كل الأحوال، وحرم الظلم والجور في كل مجال، أحمده سبحانه واشكره على كل حال، وأعوذ به من حال أهل النار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الواحد القهار، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومن سار على هديهم وسلك سبيلهم إلى يوم المعاد.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى حق تقاته، واعملوا بطاعته ومرضاته، واعلموا عباد الله أنه لن يتحقق لأمة الإسلام ما تصبوا إليه من تقدمٍ ورقي، وعزةٍ وسعادةٍ، إلا في ظل عدلٍ وارفٍ، وحقِّ ظاهرٍ، وأمنٍ شاملٍ، ولن يتم ذلك إلا بتضافر جميع أفراد المجتمع من حكام ومحكومين، وقادةٍ ورعيةٍ، كلُّ على قدر طاقته واستطاعته، وفي حدود مسؤولياته وواجباته المناطة به، فلتتضافر الجهود منكم أيها المؤمنون في تحقيقِ العدل، والعملِ بالإنصاف والقسطِ في كل المجالات، وعلى كل الأحوال، طاعةً لله عز وجل وتقرباً إليه، فإنه حين يمتد رواق العدل، وينبسط سلطان الحق على المستوى العام والخاص في بلاد الإسلام، يتحقق لها بإذن الله ما يُؤمَّل من العز والتمكين، والنصرِ المبين، ويعمُّ فيها الخير و الرخاء، وينتشرُ في أرجائها المودة والإخاء، فاتقوا الله أيها المسلمون، وليرتفع شعار الحق في مجتمعاتكم، ويعلوا منار العدل في أوطانكم.
المرفق | الحجم |
---|---|
5الحث على تحقيق العدل.docx | 32.91 كيلوبايت |