في التشويق إلى دار النعيم

 

الحمد لله الذي جعل الجنة مأوى أوليائه، وبوأها للمتقين من عباده، أحمده سبحانه وأشكره على عموم نواله، وسوابغ نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك في ربوبيته وألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيلهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله وأطيعوه، واستقيموا على شرعه ودينه ولا تعصوه، وسارعوا إلى مغفرته ورحمته، وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته ورضوانه، فلقد أعد الله عز وجل لأهل طاعته ومرضاته جنات تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها، هيأها للمؤمنين، وبوأها للمتقين، وأودع فيها من أصناف النعيم والخيرات، وأنواع الفضل والمسرات، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )[السجدة:17].

جلَّى لنا ربنا جل وعلا في كتابه، وعلى لسان رسوله e ما أعدَّ لأهل كرامته ورضوانه في دار الإقامة من الفوز العظيم، والملك الكبير، والنعيم المقيم، في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، أولئك هم الآمنون يوم الدين، يوم يقوم الناس لرب العالمين (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون)[الأنبياء: 103]، يحشرون يومئذ إلى ربهم وفداً، ويساقون إلى الجنة زمراً، ويناديهم المولى جل وعلا: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون،الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمينادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون)[الزخرف:68-70]، أول زمرة منهم يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري أضاء في السماء، على خَلْق رجل واحد، أبناء ثلاث وثلاثين، على صورة أبيهم آدم طوله ستون ذراعاً وعرضه سبعة أذرع، تحيتهم فيها سلام، يسبحون الله بكرة وعشياً، لا يملون ولا يفترون (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)[يونس:10]، وحين يستقر بهم المقام في الجنة، يناديهم المنادي مبشراً: (إن لكم أن تَصِحُّوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً) ويُحِلُّ عليهم المولى رضوانه، فلا يسخط عليهم أبداً.

نِعم الدار دارُ المتقين، دارٌ جَلَّ من سوَّاها وبناها، دارٌ طابت للأبرار منازلها وسكناها، دارٌ تبلغ النفوس فيها منيتها ومناها، سقفها عرش الرحمن، وتربتها المسك والزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وبناؤها لبنة من ذهب، ولبنة من فضة (غرف من فوقها غرف مبنية)[الزمر:20]، رياضها مجمع المتحابين، وحدائقها نزهة المشتاقين، وخيام اللؤلؤ والدر على شواطئ أنهارها بهجة للناظرين ( فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم)[محمد:15].

في الجنة يا عباد الله، يتزاور الأقارب والأصحاب، يجتمعون في ظلِّها الظليل، يتنازعون كؤوس الرحيق المختوم، والتسنيم والسلسبيل، ويتنادمون بأطيب الأحاديث، قد نُزع من قلوبهم الغل والأحقاد، وطُرد عنهم الهم والأحزان، أمنوا الموت والفناء، واطمأنوا لدوام الخلود والبقاء، في سرور وهناء  (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين،لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين)[الحجر:47-48]. فاكهين بما آتاهم ربهم متنعمين (على سرر موضونةمتكئين عليها متقابلين،يطوف عليهم ولدان مخلدون،بأكواب وأباريق وكأس من معين،لا يُصَدَّعون عنها ولا ينـزِفون ،وفاكهة مما يتخيرون،ولحم طير مما  يشتهون)[الواقعة:15-21]. في ظلٍ ممدود، وخيرٍ غير محدود، وقطوفٍ دانية للآكلين، وطعمٍ لذة للطاعمين، وشرابٍ لذة للشاربين، وحليةٍ زينةٍ للناظرين (من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير)[الحج:23]،( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون)[الزخرف:71].

من كمال نعيم أهل الجنة أنهم يأكلون ويشربون، ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، بل طعامهم ذلك جشاءٌ ورشح ٌكرشح المسك، يُلهمون التسبيح والتكبير كما يُلهمون النَفَس، لهم فيها أزواجٌ مطهرة، خيرات حسان الوجوه، جمعن الجمال الباطن والظاهر من جميع الوجوه، في الخيام مقصورات، وللطرف قاصرات «كأنهن الياقوت والمرجان» «لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان» لا يفنى شبابهن، ولا يبلى جمالهن، لو اطلعت إحداهن على الدنيا لملأت ما بين الأرض والسماء عطراً وطيباً، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ما في النجوم من ضياء، حورٌ عينٌ، كأمثال اللؤلؤ المكنون، راضياتٌ لا يسخطن أبداً، ناعماتٌ لا يبأسن أبداً، خالداتٌ لا يزُلن أبداً.

في جنات عدن يأتلف شمل أهل الجنة مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وملائكة الرحمن يدخلون عليهم من كل باب، بالسلام والترحيب والإكرام: (جناتُ عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب،سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)[الرعد:23-24].

ومع ما هم فيه من هذا النعيم المقيم، يتفضل عليهم المولى عز وجل بيوم المزيد، وما أدراك ما يوم المزيد، يوم يكشف فيه الرب الحجب، ويتجلى لأهل الكرامة، فيغشاهم من النور ما يغشاهم، وينظرون إلى وجهه الكريم، فيحصل لهم بذلك تمام السرور، وكمال النعيم، الذي يقصر دونه كل فضل ونعيم ( وجوه يومئذ ناضرة،إلى ربها ناظرة) [القيامة:22-23] أولئك هم أصحاب الحسنى وزيادة.

فهذه بعض أوصاف جنات عدن، وما أعد الله فيها من الإكرام والنعيم، فهل من مشمِّر إلى تلك الدار، وسالك إليها مسالك الأبرار، فلتلك الدار يا عباد الله فليعمل العاملون، وفي الأعمال الموصلة إليها فليتنافس المتنافسون، فلقد جعلها الحق عز وجل مستقراً لخاصته، وأهل كرامته، وملأها برحمته ورضوانه، وبوأها للمخلصين من عباده (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون)[الأنبياء: 49]، (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون)[المؤمنون:60]  (الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون)[المؤمنون:61]،  (الذين هم في صلاتهم خاشعون،والذين هم عن اللغو معرضون،والذين هم للزكاة فاعلون،والذين هم لفروجهم حافظون،إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)[المؤمنون:1-6]، (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون،والذين هم بشهاداتهم قائمون)[المعارج:32-33]، (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون)[الشورى:37]، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، أولئك هم عباد الله المقربون، حفظوا وصية الله ورعوا عهده، فأكرمهم سبحانه، وأورثهم جنته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين، وبفضلك يا أكرم الأكرمين..

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وتذكروا أن الله عز وجل لم يخلق خلقه عبثاً، ولم يتركهم سدى، وإنما خلقهم لأمر عظيم، وخطب جسيم، عرضه على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنه، وأشفقن منه إشفاقاً، وحمله الإنسان على ضعفه وعجزه عن حمله، وباء به على ظلمه وجهله، غير أن أكثر الناس قد استثقلوا حمل تلك الأمانة، وغفلوا عن حقيقة ما خُلقوا له، استولت عليهم الغفلة، وغرتهم الأماني الباطلة، خدعهم طول الأمل، وران على قلوبهم سوء العمل، ليس لهم همٌّ إلا في لذات الدنيا وشهواتها، كيف حصلت حصَّلوها، ومن أي وجهٍ لاحت أخذوها، وإذا عرض لهم عاجل من الدنيا لم يؤثروا عليه ثواباً من الله ورضواناًيعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون )[الروم:7].

فالعجب من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، لحظات حياته معدودة عليه، وكل نفس من أنفاسه إذا ذهب لم يرجع إليه، ومطايا الليل والنهار تسرع به، ولا يتفكر إلى أين يحمل، ولا إلى أي الدارين يُنقل، يؤثر الحظ الفاني على الحظ الباقي، ويبيع جنةً عرضها السموات والأرض، فيها أنواع الملذات، وأصناف النعيم بصُبَابة عيش إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوبٌ بالنغص، ممزوجٌ بالغصص، إن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن سرَّ يوماً أحزن شهوراً، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف مسراته، أوله مخاوف، وآخره مَتالف.

فاتقوا الله رحمكم الله، وأقبلوا على ربكم وأطيعوه، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، فما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

 

المرفقالحجم
ملف 12في التشويق إلى دار النعيم.docx34.14 كيلوبايت
 

الحمد لله الذي جعل الجنة مأوى أوليائه، وبوأها للمتقين من عباده، أحمده سبحانه وأشكره على عموم نواله، وسوابغ نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك في ربوبيته وألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيلهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">