في الحث على الإخلاص والتحذير من الرياء

 

الحمد لله رب العالمين، يعلم ما تسرون وما تعلنون، وهو عليم بذات الصدور، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلاَّم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيدُ الأنام، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام، ومن سار على هديهم وسلك سبيلهم إلى يوم المعاد.

            أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، والتزموا مسالك الرشاد والهدى، فإنما تزكو النفوس وترتقي إلى مصاف المقربين الأبرار، بتحقيق الإيمان والتقوى، والاستقامةِ على نهج الحق والهدى، والإخلاصِ في العبادة والطاعة لله جل وعلا.

            فإن الإخلاص لله تعالى مطلبٌ عزيز، ومقصدٌ من مقاصد الدين عظيم، بدونه لا يصح من العبد طاعة، ولا يُقبل منه عبادة، وما اتصف به مسلم إلا كان عنوان زكاء نفسه، وصدقِ إيمانه، وقوةِ يقينه، وهو سرُّ الله تعالى يقذفه في قلوب العارفين من عباده، يقودهم به إلى جلائل الأعمال، ويحببهم في أحسن الفعال، ويبعث فيهم همماً عالية، وعزيمةً صادقة، ويربي فيهم روحاً طيبةً طاهرةً، وهو الذي يبرئ العمل من العيوب، ويُخَلِّصُ من المساوي والذنوب، وهو عماد الأعمال، وسر النجاح، وسبيل السعادة والتوفيق في الحياة الدنيا وفي الآخرة، يقول الله عز وجل: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة)[البينة:5]، ويقول سبحانه: (فاعبد الله مخلصاً له الدينَألا لله الدين الخالص)[الزمر:2-3].

            أما حين يضعف داعي الإخلاص في النفوس، ويحل محلَّه الرياءُ وحبُ الشهرة والثناء، فذلك دليل ضعف الإيمان، وقلةِ اليقين، وهبوطِ الهمة، وسقوطِ المنـزلة عند الله والخلق، وما ذاك إلا لأن الرياء يا عباد الله داءٌ عضال، وبلاءٌ عريض، ما تمكن من قلوبٍ إلا أعماها، ولا من نفوسٍ إلا أذلها، ولا شابَ عملاً إلا أفسده وأحبطه، كما جاء في الحديث القدسي (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه). رواه مسلم في صحيحه.

            وإنه لما في الرياء من عظيمِ الخطر، وبالغِ الضرر، وكثرةِ الابتلاء به، خافه رسول الهدى e على أمته، وبالغ في التحذير منه، فقد روى ابن ماجه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله e: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال، فقلنا: بلى يا رسول الله، فقال: الشرك الخفي، يقوم الرجل، فيصلي، فيُزَيِّنُ صلاته لما يرى من نظر رجل إليه).

            قال بعض العلماء تعليقاً على هذا الحديث: "وإنما كان الرياء كذلك لخفائه، وقوة الداعي إليه، وعسر التخلص منه لما يزينه الشيطان، والنفسُ الأمارة بالسوء في قلب صاحبه".

            ألا وإن الرياء يا عباد الله من أسوء ما يبتلى به بعض المتعبدين، ويقع فيه بعض الغافلين، رغبةً في استجلاب ثناء الناس ومدحِهم، أو غيرِ ذلك من حظوظ الدنيا.

وإن من مظاهر ذلك الإكثار من نوافل العبادات من صلاةٍ وصيامٍ وصدقةٍ وإحسانٍ على مرأى من الناس، أو الجهر بالذكر والاستغفار، وإظهار الخشية والخشوع في المجامع العامة، ولا سيما عند تلاوة القرآن، ليلفت بذلك أنظار الناس.

            ومن مظاهر المراءاة عند البعض أن يتحدث لدى الآخرين عما يؤديه من أعمال صالحه، كأن يخبر عن نفسه بأنه يقوم من الليل، ويصوم كثيراً من الأيام، وأنه قد تصدق بكذا وكذا من الأموال، أو أن يذكر كم حجة حجها، وكم عمرة اعتمرها، أو أن يعدد ما يقوم به من أعمال الخير، وما يشارك فيه من أعمال البر، وربما ظل يردد ذلك أو بعضه، ويخبر به المرة تلو الأخرى، حرصاً على إشاعة ذكره، والتنويه بفضله، وبغية أن يُسلك في عداد العابدين، أو يوصف بأنه من المحسنين، أو غير ذلك من المقاصد السيئة، والحظوظ الدنيوية الزائلة.

            فكلُّ ذلك وما شاكله ضربٌ من ضروب المراءاة في الطاعة، تستوجب بطلان تلك الأعمال، وتجلب غضب الجبار، ومقت الخلق لذلك المرائي، وبغضَهم إياه، ولذا جاء التحذير من سلوك هذا المسلك، وبيان سوء عاقبة صاحبه على لسان رسول الهدى e حيث يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى منادٍ: من كان أشرك في عمله لله أحداً، فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغني الشركاء عن الشرك). رواه الترمذي وابن ماجه.

            وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أوَّل الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهد، فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استُشهدت قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعَلَّمه، وقرأ القرآن فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعَلَّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتي به فعرَّفه نعمه، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن يُنفَق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أُمر به، فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار).

            وجاء في بعض الروايات أن معاوية رضي الله عنه لما سمع هذا الحديث بكى بكاءً شديداً، ثم قرأ قوله تعالى: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسونأولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون)[هود 15-16].

            وجاء في الحديث عند البخاري ومسلم أن رسول e قال: (من سَمَّع سَمَّع الله به، ومن يرآءِ يرآءِ الله به)، قال الإمام الخطابي – رحمه الله – تعليقاً على هذا الحديث: "أي: من عمل عملا على غير إخلاص، إنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جوزي على ذلك بأن يَشْهَرَه الله ويفضحه، ويبدو عليه ما كان يبطنه ويُسِرُّه من ذلك".

            فاتقوا الله عباد الله واجعلوا الإخلاص رائدكم، وما عند الله غاية آمالكم، وتذكروا على الدوام قول الحق عز وجل: ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً)[الكهف 110].

            نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله العلي الأعلى، يعلم السر وأخفى، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه العظمى، ونعمه الكبرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، نبيُه المصطفى، وحبيبُه المجتبى، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، وبدور الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتذكروا أن من دلائل صدق الإيمان، ومن الإخلاص لله تعالى في الأعمال: أن يكون ظاهرُ المرء كباطنه، وعلانيتُه كسرِّه، وأن يحرص على إخفاء ما يمكن من نوافل العبادة والطاعة، فإنه من هديه e، وهو نهج المخلصين من سلف هذه الأمة، وهداتِها الأعلام، وأئمتِها الأخيار، فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معرض التحذير من الرياء: "للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أُثنى عليه، ويُنقِصُه إذا ذم به".

ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يطأطئ رقبته، فقال: "ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب".

ومرَّ أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه على رجلٍ في المسجد وهو ساجدٌ يبكي في سجوده ويدعو، فقال له: " أنت، أنت! لو كان هذا في بيتك".

ولقد بلغ من خوف السلف الصالح من الرياء أن أحدهم ربما أخفى النوافل من عباداته حتى عن أهله وأولاده، حذراً من الرياء، وحرصاً على الإخلاص لله جل وعلا، وكانوا يجتهدون في إخفاء عباداتهم، إلا أن تترجح مصلحة إظهارها على إخفائها، كأن تكون من العبادات التي تشرع لها الجماعة، أو لكي يحصل الاقتداء به والتأسي، كما في الصدقات ونحوها، فقد قال الله عز وجل: ( إن تبدوا الصدقات فَنِعِمَّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفرُ عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير)[البقرة:271].

فاتقوا الله عباد الله، ولتبتعدوا كل البعد عن الرياء والسمعة، ولتُخلصوا لله تعالى أعمالكم، ولتبتغوا بها وجه الله والدار الآخرة، فما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

 

الحمد لله رب العالمين، يعلم ما تسرون وما تعلنون، وهو عليم بذات الصدور، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلاَّم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيدُ الأنام، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام، ومن سار على هديهم وسلك سبيلهم إلى يوم المعاد." data-share-imageurl="">