الحث على شكر الله

الحمد لله على ترادف آلائه ونعمائه، ومزيد فضله وإحسانه، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل عطائه، وجميل نواله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وفي أسمائه وصفاته، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، خيرُ من عبد ربه حق عبادته، وشكره حق شكره، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وأصحابه الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: فيا أيها المسلمون أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها وصيته تعالى لعباده الأوائل والأواخر، بها تزكو النفوس، وتطمئن القلوب، وتسمو الضمائر، وبها ينال العبد شرف الدنيا وعز الآخرة، فاتقوا الله أيها المؤمنون حق التقوى، واتصفوا بها ظاهراً وباطناً، والتزموا شكر المولى جل وعلا على ما أسبغ عليكم من نعم عظمى، وما حباكم من خيرات تترى، ومنن تتوالى، في أنفسكم وأهليكم، وفي جميع شؤونكم، إذ كل ما في هذا الكون من نعمٍ فإنما هي من فضله وجوده وحده، كما قال سبحانه: (وما بكم من نعمة فمن الله)[النحل:53].

عباد الله: إن أعظم نعم الله عليكم بعد نعمة الخلق والإيجاد هدايتُكم إلى الدين الحق الذي ضل عنه كثير من الخلق.

فتلكم نعمة لا تعدلها نعمة، وفضل لا يوازيه فضل، أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، واستنقذكم به من العذاب المهين إلى الرحمة والنعيم المقيم(وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)[آل عمران:103].

وإن من جليل نعم الله عليكم في هذه البلاد الطيبة ما تهنؤون به من أمن وارف، ورخاء شامل، وخيرات وافرة، ونعم متكاثرة ظاهرة وباطنة (وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)[إبراهيم:34].

وإن هذه النعم المترادفة، والخيرات المتوالية لتستوجب مزيداً من الحمد والثناء، والشكر للمنعم المتفضل جل وعلا، فإنه ما حفظت النعم إلا بالشكر، ولا سلبت إلا بسبب الجحود والكفر كما قال عز وجل: (وإذْ تأذَّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد)[إبراهيم:7] وشكره سبحانه إنما هو بالقيام بحقه الذي افترضه على العباد بأن يطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا ينسى، وأن يستقام له على الدين الحق، استقامةً يظهر أثرها، وتتجلى معالمها بدوام المراقبة له جل وعلا في القول والعمل، والاتجاه إليه تعالى بالطاعة والإنابة، والعبودية الخالصة في جميع الأوقات، وعلى كل الأحوال، والكف عن المعاصي والذنوب، واجتناب الفواحش والآثام، والبعد عن مسالك الضلالة والغواية، فإن ذلك سبب دوام النعم الخاصة والعامة، وترادف الخيرات، وعموم البركات في البلاد وعلى العباد، كما وعد الحق بذلك في قوله سبحانه: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً)[الجن: 16]، قال بعض المفسرين في معنى الآية: أي لو استقاموا على طريق الحق والهدى، فكانوا مؤمنين مطيعين لوسع الله عليهم في الدنيا، ووهب لهم عيشاً رغداً، وإنما ضرب سبحانه المثل بالماء الغدق وهو الكثير، لأن الخير والرزق في نزول الغيث كما قال عز شأنه: ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)[الأعراف:96].

وإن أسوأ ما تقابل به النعم يا عباد الله: المعصية والضلالة، والتمادي في الإعراض عن الله وطاعته، فإن ذلك جحود للفضل، وتنكر لجميل المنعم المتفضل، يحمل على زوال النعم الحاضرة، ومنع الخيرات الوافدة، وحلول العقاب، ونزول العذاب، وهو مقام العدل، حين لا يجدي الفضل كما قال عز وجل:(ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم )[الأنفال:53].

وإن مما يبعث على عظيم الأسى ما يُرى من مظاهر الجحود للنعم، والتنكر لجميل المنعم لدى كثيرين منا في ضروب من الغفلة عن الله تعالى، والإعراض عن طاعته، واقتراف الذنوب والمعاصي، والانسياق وراء الأهواء والشهوات، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الحكم بما أنزل الله في كثير من بلاد الإسلام، ورفع ألوية الباطل بمختلف أنواعه، من معتقدات باطلة، وبدع مستحدثة، وأفكار وافدة مخالفة لمنهج الحق والهدى، ودعوات مضللة، ودعايات منكرة، تتخد من حبائل الشيطان وسيلة للإغواء والإغراء بالفتنة، عبر وسائل متنوعة، يأتي في طليعتها قنوات الاتصال ووسائل الإعلام المختلفة، وما يُبث فيها من منكرات عظمى، تتفطر لهولها قلوبُ أهل الإيمان واليقين، وتتألمُ لفظاعتها نفوس الغيورين على الحرمات والدين، فلتحذروا عباد الله من التمادي في العصيان، والإسراف في الذنوب والآثام، ولتعملوا جاهدين في صدِّ تلك الشرور والمنكرات، والحيلولة دون فشوها في بلاد الإسلام، ومجتمعات المسلمين، فإنه ما ظهرت الفواحش والمنكرات في ديار إلا أهلكتها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها حتى تدع الديار بلاقع.

وإن من صدق الإيمان واليقين يا عباد الله أن لا يُغتر بحلم الله تعالى على الظالمين والعصاة، فإن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وإنما يستدرج الظالمين بالنعم حتى يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون كما قال سبحانه: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنيننسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون)[المؤمنون:55-56].

 

فاتقوا الله عباد الله، واشكروا نعم الله عليكم، وقيدوها بالطاعة، ومجانبة المعصية، واستجيبوا لأمر الرب العظيم، واستمعوا لوعده الكريم إذ يقول:(فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)[البقرة:152].فلتحذروا بأسَ ربكم وسخطَه، وتحوُّلَ عافيته، وفُجاءةَ نقمته، ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (إنَّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ e قوله تعالى: (وكذلك أخْذُ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد، إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود)[هود:102-103]، وروى الإمام أحمد والطبراني والبيهقي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله e قال: (إذا رأيتم الله يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم، فإنما ذلك استدراج، ثم تلا رسول الله e قوله تعالى: ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أُوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون،فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)[الأنعام:44-45] قال بعض العلماء: استدراج الله للعبد أنه كلما جدد ذنباً جدد له نعمة، وأنساه الاستغفار، فيزداد أشراً وبطراً بسبب تواتر النعم عليه، ظاناً أن تواترها تقريب من الله له، وإنما هو خذلان وتبعيد، ولذا قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كم من مستدرَج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القـول فيه، وما ابتلى الله سبحانه أحـداً بمثل الإمـلاء له"، والله عز وجل يقول: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون،وأملي لهم إن كيدي متين)[الأعراف:182-183].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

 

أول الخطبة الثانية

أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق تقاته، واشكروه سبحانه على ما أسبغ عليكم من النعم الوافرة، وما أولاكم من المنن الضافية، شكراً تلهج به الألسن، وتوقن به القلوب، وتصدقه الجوارح، بالاستقامة على الدين الحق، والسير على نهج الهدى، والمسارعة إلى مغفرة الله ورحمته صدقاً وإخلاصاً.

فإن المؤمن حقاً يا عباد الله هو من لا تزيده النعم إلا تواضعاً لله، وتذللاً بين يديه سبحانه، فكلما جدد الله تعالى له نعمة، ازداد له عبودية وخضوعاً، وإنابة وخشوعاً (ومن يشكرْ فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد)[لقمان:12].

فكونوا عباد الله ممن لا تزيده النعم إلا إقبالاً على الله، وتوجهاً إليه، ولا تكونوا ممن أبطرته النعم، فأعرض عن الله، واتبع هواه فكان من الغاوين (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين)[القصص:50].

المرفقالحجم
ملف 15الحث على شكر الله.docx44.71 كيلوبايت
الحمد لله على ترادف آلائه ونعمائه، ومزيد فضله وإحسانه، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل عطائه، وجميل نواله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وفي أسمائه وصفاته، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، خيرُ من عبد ربه حق عبادته، وشكره حق شكره، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وأصحابه الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليماً كثيراً." data-share-imageurl="">