فضيلة الذكر وشرف الذاكرين

          

 

الحمد لله ولي الصالحين، ومثيب الطائعين، ومجزل العطاء للذاكرين الشاكرين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، وسيد الذاكرين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فإنها أعظمُ وصية، وخيرُ لباس وحِلْية، كما قال سبحانه: (ولباس التقوى ذلك خير)[الأعراف:26]، فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، ولتعلموا عباد الله أن من أجَلِّ خصال التقوى، ومن أفضل ما تقرب به العبد إلى ربه جل وعلا: الإكثار من ذكره تعالى، فإن ذكره عز وجل أفضل ما صرفت فيه الأوقات، وعمرت به الأزمان، وأجهدت في سبيله المهج والنفوس، وهو الحصن الحصين من المخاوف، والدرع الواقي من المهالك، والحامي عن نزغات الشيطان والهوى، والحارس عن المآثم والردى، به تُستنـزل الرحمات، وتُستدفع الآفات، وتُفرج الكربات، وبه تحيا النفوس، وتنشرح الصدور، وتطمئن القلوب (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)[الرعد:28].

وذكر الله تعالى أجلُّ وأكبر من كل شيء، كما قال عز وجل: (ولذكر الله أكبر)[العنكبوت:45]، وهو باب الله الأعظم، المفتوح بينه وبين عبده، ما لم يُغلقه العبد بغفلته، فهو الذي يوصل الذاكر إلى المذكور، حتى يدع الذاكرَ عند ربه مذكوراً كما قال تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)[البقرة:152]، وفي الحديث القدسي المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله e قال: ( يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم).

أيها المسلمون: لقد عظَّم الحق عز وجل شأن الذِّكْر، وأشاد بالذاكرين، وأعلا مقامهم بين العالمين، وخلع عليهم من حُلل الرضا والقبول، وأعد لهم من جزيل الفضل وسابغ النعيم ما يحمل على سلوك سبيلهم، والاهتداء بهديهم، فقد قال سبحانه منوهاً بشأنهم: (والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً)[الأحزاب:35]، وقال عز شأنه: (إنَّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب،الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم)[آل عمران:190-191] وقال عز وجل: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون،الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون،أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريم)[الأنفال:2-4].

فالمسلم الحق الذي فتح الله تعالى بصيرته، ونوَّر سريرته، قلبُه عامر بذكر الله على كل حال، ولسانه رطبٌ من ذكر الله كل حين وآن، به يفتتح يومه، وبه يختمه، ويلازمه فيما بين ذلك، امتثالاً للتوجيه الإلهي، إذ يقول عز شأنه: (فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم)[النساء:103]، ويقول سبحانه موجهاً نبيه e وهو توجيه للأمة كافة: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين)[الأعراف:205] فكان رسول الهدى e ملازماً للذكر على كل أحواله، وفي جميع أوقاته، ووجَّه الأمة إلى الإكثار من ذكره تعالى، منوهاً بما أعد الله للذاكرين والذاكرات من عظيم الأجر وجزيل العطاء، فروى الترمذي والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: ( ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله)، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (سبق المفرِّدون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي e قال: (مَثَلُ الذي يذكر اللهَ والذي لا يذكره مثل الحي والميت). رواه البخاري في صحيحه.

ولقد حث ربنا جل وعلا في آي كثيرة من كتابه، وفي أحاديث كثيرة على لسان رسوله e على الإكثار من الذكر مطلقاً ومقيداً، وندب إليه مؤقتاً ومؤبداً.

وإن أفضل أنواع الذكر: تلاوة كتاب الله الكريم، فإن فضل كلام الله تعالى على غيره كفضل الله تعالى على خلقه، وإن من دلائل توفيق الله للعبد أن يداوم على تلاوة كتاب الله كلَّ يوم، إذ فيه الهدى والنور، والشفاءُ لما في الصدور (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهدى ورحمةٌ للمؤمنين،قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)[يونس:57-58].

ويلي كلام ربنا تعالى في الشرف والفضيلة، تمجيدُه تعالى وتعظيمُه بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير، وغيرِ ذلك من أنواع الأذكار التي ورد الحث عليها فيما صح عنه e من أخبار، فقد روى الترمذي وحسنه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: ( لقيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليلة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله e: ( ألا أدلك على كنـز من كنوز الجنة، فقلت: بلى يا رسول الله قال: لا حول ولا قوة إلا بالله). رواه الشيخان، ولهما أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).

فهذه طائفة من الأذكار المطلقة التي حث عليها الشارع، وندب المسلم أن يلهج بها كل وقت وعلى كل حال، كما شرع الإسلام أذكاراً مقيدة، وجعل لكل وقت من الأوقات، وكل حالة من الحالات، ذكراً خاصاً يناسبه ويلائمه، كي يظل العبد مرتبطاً بربه، ويكون محفوظاً بحفظ الله من كل ما يحاذر ويخشى، فشرع الإسلام أذكاراً للصباح وللمساء، وعند النوم والاستيقاظ، وفي أدبار الصلوات، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند الخروج من المنـزل ودخوله، وعند ركوب وسيلة النقل، وعند السفر والقدوم، وعند الأكل والشرب واللباس ولقاء الأهل، وعند العطاس، وعند رؤية أهل البلاء، وعند حلول المصائب، وعند تجدد النعم، واندفاع النقم، وغير ذلك من أنواع الأذكار المقيدة بوقت من الأوقات، أو حالة من الحالات.

وإن من دلائل الإيمان الصادق، ورسوخ القدم في مقام الإحسان، أن يحافظ المرء على تلك الأذكار والأوراد، وأن يذكر الله تعالى حقاً وصدقاً، ذكراً يملأ القلب إيماناً ويقيناً، وخشيةً لله وإجلالاً، ويظهر أثر ذلك في المحافظة على الفرائض والواجبات، والكف عن الزواجر والمحرمات، حتى لا يراه تعالى حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره.

عباد الله: إن الله عز وجل حين أمر العباد بالإكثار من ذكره، نهى أيضاً عما يضاد ذلك، فحذر تعالى عن الغفلة عن ذكره، وندد بالغافلين، ونهى عن سلوك سبيل اللاهين، فقال عز شأنه: ( ولا تطع من أغفلنا قلبَه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً)[الكهف:28]، وقال عز وجل: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يُرِدْ إلا الحياةَ الدنيا)[النجم:29].

فنسيانُ ذكرِ الله تعالى، والغفلةُ عنه من أسوأ ما يصاب به المرء، وأعظمِ ما يبتلى به العبد، وهو دليل استيلاء الشيطان عليه، وانقياده إليه، ومن استحوذ عليه الشيطان قاده إلى الغواية والضلالة في مختلف دروبها، وشتى مسالكها، حتى يخسر دنياه وآخرته، وذلك هو الخسران المبين، يقول عز وجل: (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون)[المجادلة:19].

ولقد حذر القرآن أهل الإيمان من الانشغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله، وتوعد من فعل ذلك بسوء العاقبة ومنتهى الخسران، فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون)[المنافقون:9].

وإن مما يؤسى له عظيم الأسى ما يُرى من غفلة عن ذكر الله وطاعته في كثير من بني الإسلام، وإن من مظاهر ذلك ما يُرى من مخالفات لدين الله وشرعه، كالتعلق بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وإهمال لشعائر الإسلام، وفي طليعتها الصلاة التي هي عماد الدين، وترك الحكم بما أنزل الله في كثير من بلاد المسلمين، وما يشاهد من اقترافٍ لكبائر الذنوب، وارتكابٍ للفواحش والآثام، وفشو المنكرات، ورذائل الأخلاق، ومستقبح العادات، وخلع جلباب الحشمة والحياء، والتبرج والسفور في النساء، والإغراء بالفتنة، وارتفاع أصوات المعازف والمزامير، وغير ذلك من بلاءٍ عريض، وفساد كبير، وخطرٍ عظيم على الديانة والأخلاق، يساعد على ذلك ويُذْكيه وسائلُ الإعلام المختلفة، ولا سيما ما يبث عبر فضائياتها العالمية، فإلى متى الغفلة يا عباد الله عما يجب له تعالى من ذكر وإنابة، واستقامة على نهج الهدى، وبعدٍ عن مزالق الشيطان، وسبل الشر والضلال.

فاتقوا الله عباد الله، واحذروا مما حذركم الله منه بقوله: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون)[الحشر:19] ولتعمروا أوقاتكم أيها المؤمنون بذكره سبحانه على الدوام، ذكراً تلهج به الألسن، وتوقن به القلوب، ويحمل على حفظ واجبات الدين، وشرائع الإسلام،  ويقود إلى جلائل الأعمال حتى يُسلك صاحبُه في عداد المتقين، ويرتقي إلى مصافِّ الأبرار المقربين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً،وسبحوه بكرةً وأصيلاً،هو الذي يصلي عليكم وملائكتُه ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً)[الأحزاب:41-43].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقاته، وأكثروا من ذكره وشكره، فذلك سبيلُ الصالحين، ونهجُ المتقين، وطريقُ الفلاح يوم الدين (واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)[الجمعة:10].

وإن للذكر من عظيم الآثار، وجليل الفضائل، ما يحمل أهل الإيمان والتقوى على ملازمته في السر والنجوى، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في بيان بعض منافع الذكر، ووصف حال الذاكرين: "الذكر هو منشور الولاية، الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عُزل، وهو قوت قلوب المؤمنين، به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون به عليهم المصيبات، إذا أظلهم البلاء فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، فهو رياض جنتهم التي بها يتقلبون، ورؤوس أموالهم التي بها يتجرون، وهو جلاء القلوب وصقالها، ودواؤها إذا غشيها اعتلالها، وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقاً، ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقاً، وإذا واطأ في ذكره قلبُه للسانه نسي في جنب ذكره تعالى كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضاً من كل شيء، به يزول الوَقْر عن الأسماع، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار، زين الله تعالى به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين".

فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من ذكره سبحانه آناء الليل وأطراف النهار، وصلوا وسلموا على سيد الذاكرين الأبرار، كما أمركم بذلك العزيز الغفار (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً)[الأحزاب:56].

 

المرفقالحجم
ملف 18فضيلة الذكر وشرف الذاكرين.docx35.22 كيلوبايت
          

 

الحمد لله ولي الصالحين، ومثيب الطائعين، ومجزل العطاء للذاكرين الشاكرين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، وسيد الذاكرين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">