الحث على الحلم والصفح

الحمد لله الحليم التواب، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عليه توكلت وإليه متاب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أعظم الناس خلقاً، وأوسعهم حلماً، وأقواهم عزيمة وصبراً، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء، والسادة الحنفاء، ومن سلك سبيلهم واقتفى، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها الذخر الذي يبقى، والزاد الذي لا يفنى، فاتقوا الله تعالى في السر والنجوى «ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً»[الطلاق:4].

عباد الله: عنوانُ رقي الأمم وتقدمها، وسبيلُ عزها ومجدها، إنما يكون بالحفاظ على القيم والآداب، ومكارم الأخلاق، والأخذ بمعالي الفضائل، وجميل الشمائل، في مجتمعاتها وأفرادها، لذا فلا غرو أن يعنى الإسلام بأمر الأخلاق عنايةً عظمى، وأن يوليها رعايةً كبرى، حتى قال رسول الله e: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق). رواه الإمام أحمد وغيره.

وإن مما عُني به الإسلام من محاسن الأخلاق، وفضائل الآداب، ووجه إلى التحلي به: الاتصافَ بالحلم، فإن الحلم يا عباد الله من أرقى الآداب، وأنبل الأخلاق، وأجل الشمائل، وأسمى الفضائل، فقد وصف الله تعالى به نفسه، وجعله خلقاً لأوليائه، وحملة وحيه، ومبلغي رسالاته، فقال عز شأنه عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (إن إبراهيم لأواه حليم) [التوبة:114]، وقال عن إسماعيل عليه الصلاة والسلام: (فبشرناه بغلام حليم) [الصافات:101].

أما خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو الذي بلغ الغاية في الفضائل، والنهاية في المكارم، فقد كان في الذروة بين البشر في الحلم، وسعة الصدر، وكظم الغيظ، وضبط النفس، والاستعلاء على الغضب، وكان حلمه صلوات الله وسلامه عليه مضرب المثل، فقد صبر على ما لا يصبر عليه غيره، وتحمل من الأذى ما لم يتحمله سواه، رغم قساوة ما لاقى، ومرارة ما عانى، من جهل الجاهلين، وتطاول المنافقين، وأذى اليهود والمشركين، غير أنه عليه الصلاة والسلام وهو صاحب الخلق العظيم كان يقابل ذلك كله بحلم واسع، وصفح جميل، وصبر عظيم، عزَّ نظيره، وقلَّ مثيله، مستوحياً ذلك من توجيه الحق سبحانه بقوله: (فاصفح الصفح الجميل)[الحجر:85]، وقولِه عز وجل: (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين)[المائدة:13]، وقولِه عز شأنه: « فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل»[الأحقاف:35]، وقولِه تعالى: (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون،إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) [النحل:127-128]، فامتثل صلوات الله وسلامه عليه هذه التوجيهات الإلهية، حتى ضرب بحلمه أسمى الأمثال، وبصفحه أروع الأفعال، فلم يكن e ينتقم لنفسه من أحد قط، إلا أن تنتهك حرمات الله، فينتقم لله تعالى لا لنفسه، كما وصفته بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

ولقد بلغ من عظيم حلمه، وجليل عفوه e أنه حينما عاد إلى مكة فاتحاً منتصراً، لم يزد على أن قال لأهلها - وهم الذين آذوه وأخرجوه منها-: (لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء).

ومما صح عنه e من مواقف كبرى، ودروس عظمى في الحلم والصبر، ما روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله e وعليه بُرْدٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي e وقد أثَّر بها حاشية البُرْد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله e، ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء).

 وفي الصحيحين أن رجلاً قال للنبي e وهو يقسم غنائم حنين: يا محمد! اعدل،فقال e: (ويلك من يعدل إن لم أكن أعدل؟ لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق، فقال e: (معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي).

وروى البخاري ومسلم أن رجلاً قال يوم أن قسم النبي e غنائم حنين: ما أريد بهذه القسمة وجه الله، فبلغ قوله النبي e، فلم يزد على أن قال: (لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر)، فأي حلم فوق هذا!، وأي عفو وفضل أجلُّ من هذا!، إذ لم يعاقب النبي صلوات الله وسلامه عليه واحداً من أولئك، على الرغم من شناعة ما قالوا، وبشاعة ما اقترفوا في حقه e، لكنه آثر العفو والصفح، وتدرع بالحلم والصبر، وهكذا شأن الكُمَّل من الرجال المصطفين الأخيار، وإن في هذا لأعظم أسوة، وأبلغ قدوة لأمته e من  بعده.

عباد الله: كم يمر على المرء في هذه الحياة من مواقف تؤلمه وتضجره، وتثير كوامن نفسه، وقد تخرجه عن حدود الاعتدال، وتؤدي به إلى الغضب والانفعال، ثم قد يتبع ذلك تصرفات قولية أو فعلية لا يحمدها في عاقبة أمره حين تهدأ نفسه، ويذهب غيظه، ويعود إلى رشده، بل قد يَأْسَ أسىً بالغاً على بعض تصرفاته، ويندمُ ندماً شديداً على بعض أقواله، ولو اتصف بالحلم، وتدرع بالصبر، وضبط النفس، لما ندم على شيء من ذلك، ولكن ولات ساعة مندم.

ولذا فإن من رسوخ الإيمان، ورجاحة العقل، وقوة العزيمة، أن يملك المرء نفسه عند الغضب، ويحفظَها عما لا يحمد، ويكبحَ جماحها، ويحدَّ من سورتها، وألا يسترسلَ وراء الانفعال، وينقادَ لهوى النفس، حين يستثار من جاهلٍ يتطاول عليه، أو يبتلى بأحمقٍ يسيء إليه، بل يقابل ذلك بحلم واسع، وصبر جميل، ويُعرِض إعراض من لم يسمع ولم ير، كما قال عز وجل:(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)[الأعراف:199]، وتلك فضيلة عظمى، ومنقبة كبرى، لا يقوى عليها إلا الأفذاذ من الناس، الأقوياء في إيمانهم، الأشداء في عزائمهم،كما قال عز وجل: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)[الشورى:43]، وكما قال عليه الصلاة والسلام في معرض التوجيه للأمة: (ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). أخرجاه في الصحيحين. فقد أبان e في هذا الحديث أن القوة الحقيقية في نظر الإسلام ليست بقوة الأجسام والأبدان، وإنما هي القوة في العزيمة والإرادة، والقدرةِ على ضبط النفس، والتحكمِ بها عند الغضب، وحفظِها عن ارتكاب المآخذ، أو الوقوعِ في المآثم.

فبالحلم يا عباد الله تستجلب كثير من المصالح والخيرات، وتندفع كثير من الشرور والآفات، كما قيل في منثور الحكم: "الحلم حجاب الآفات"، وقال بعض الحكماء: "ما ذب عن الأعراض، كالصفح والإعراض"، وقال حكيم آخر: "من أرسل حلمه على سقطات الجاهل، أمن الغوائل، وفاز بالسداد الكامل"، وكان الأحنف بن قيس رحمه الله يضرب به المثل في الحلم، وإذا تعجب الناس من حلمه قال: "إني لأجد ما تجدون، ولكني صبور"، وكان يقول أيضاً: "ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان مثلي تفضلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه".

وكفى بالحلم فضلاً وشرفاً أنه خُلُقٌ يحبه الله، ومدعاةٌ لقرب المرء من ربه ومولاه، كما قال عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) أخرجاه في الصحيحين.

وإن من الحزم والرشاد أن يعوّد المرء نفسه على التخلق بالحلم والاتصافِ به، فقد روي في الأثر: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه).

وقال الإمام الليث بن سعد رحمه الله: "تعلموا الحلم قبل العلم، فما جُمع شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم".

فاتقوا الله عباد الله، ولتتصفوا بالحلم، وتتحلوا بالعفو والصفح، يكتب الله تعالى لكم الخير والسداد، والتوفيق والرشاد (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم،وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم،وإما ينـزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم)[فصلت:34-36].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله ولي الصالحين، ومعين الصابرين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمة لعالمين، وهدى للناس أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واتصفوا بصفات أهل البر والنهى، وتحلوا بالحلم والصفح عند جهل الجهلاء، أو تعدي السفهاء، واحذروا أسباب الغضب ودوافعَه، واجتنبوا مثيراته ومهيجاته، فذلك دليل العقل والرشاد، وقوةِ الإيمان، فإنَّ من ضعف العزيمة، وقلة البصيرة، أن يكون المرء غضوباً عجولاً، يثور لأتفه الأسباب، وينفعل عندما يُمَسُّ بأدنى سوء أو أذى، ويظل يرتعش كالمحموم، ينطق بالبذاء، ويتكلم بالفحشاء، وربما تجاوز ذلك إلى الضرب والاعتداء، فيجلب على نفسه بسبب حمقه وطيشه العداوةَ والبغضاءَ، وربما خسر بسبب ذلك صديقه وأليفه، وألحق الضرر بنفسه وأهله، وشتت شمل أسرته بسبب تلفظه بطلاق ونحوه، ولو اتصف بخلق الإسلام، وتأدب بأدب أهل الإيمان، ونَهَج هدي سيد الأنام في حلمه وأناته، وصبره وتحمله، لسلم من ذلك العناء، واستراح من ذلك الشقاء.

ولتعلموا عباد الله أنه كلما ازداد إيمان العبد، وقوي يقينه، عظم حلمه، وتجلت سماحته، وظهرت مروءته، وابتعد عن مواطن الغضب المؤدي إلى الزلل في الأقوال والأفعال، وعذر الناسَ من أنفسهم، والتمس المبررات لأغلاطهم، وبذلك تنطفئ كثير من العداوات والبغضاء، والإحن والشحناء، وتتآلف القلوب، وتتصافى النفوس، وتقوى أخوة الإيمان، ورابطة الإسلام، بين أبناء المجتمع، وأفراد الأمة، وبذلك يُستجلب رضوان الله تعالى ومغفرته كما قال عز شأنه: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم)[النور:22]. وقال عز وجل: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين،الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)[آل عمران:133-134].

المرفقالحجم
ملف 26الحث على الحلم والصفح.docx36.47 كيلوبايت
الحمد لله الحليم التواب، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عليه توكلت وإليه متاب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أعظم الناس خلقاً، وأوسعهم حلماً، وأقواهم عزيمة وصبراً، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء، والسادة الحنفاء، ومن سلك سبيلهم واقتفى، وسلَّم تسليماً كثيراً." data-share-imageurl="">