الحث على كفالة اليتامى

الحمد لله ولي الصالحين، ومثيب الطائعين، أحمده سبحانه وأشكره، يحب عباده المحسنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الصادق الوعد الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأكرمين، والسادة الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها الذخر الذي يبقى، والزاد الذي لا يفنى، وهي السبيل إلى السعادة في الآخرة والأولى، فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا)[الطلاق:4].

عباد الله: قد شرع الله عز وجل لعباده المؤمنين أنواعاً من سبل الخير، وضروباً من أبواب البر، ووجَّه الأنظار إلى العمل بها، والمسارعةِ في اغتنامها، لما لها عند الله تعالى من عظيم الأجر وجزيل الثواب، فقال عزَّ شأنه: (وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ أعدت للمتقين،الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)[آل عمران:133-134].

وإن من آكد أنواع البر والإحسان، ومن ضروب التكافل الاجتماعي الذي شرعه الإسلام: الإحسانَ إلى الضعفاء، والبرَّ بهم، وإعانتَهم على ما يلاقون من شدائد الحياة، ونوائب الدهر، من الفقراء والمساكين، والأرامل واليتامى والمعوزين، وإن أحقَّ هذه الفئات بالعطف والرعاية، وأولاهم بالبر والعناية، لمسيس حاجتهم، وعظيمِ بلواهم، فئةَ اليتامى القاصرين، الذين فقدوا آباءهم قبل أن يبلغوا رشدهم، فأضحوا في حال من الضعف والمسكنة، ترق لهم القلوب المؤمنة، وتحمل على الشفقة عليهم، والرأفة بهم، سعياً في التخفيف من معاناتهم، والتقليل من آلامهم، وتعويضهم عما فقدوا من حنان أبوة كانت ترعى شؤونهم، وتحوط مصالحهم، وتسعى في إدخال الأنس إلى قلوبهم، والسرور على نفوسهم.

عباد الله: لقد أولى الشارع الحكيم هذه الفئة من فئات المجتمع عنايةً عظمى، ورعاية كبرى، يبدو ذلك جلياً في كثرة ما ورد من الآيات والأحاديث، التي تحض على العناية بهذه الفئة، وتؤكد على وجوب الرعاية لها، والسعي في الإحسان إليها، وتحقيق مصالحها، بل جعل الشارع القيام بذلك في طليعة الأعمال الصالحة التي ينبغي أن يتسابق إليها المتقون، ويُعنى بها المحسنون، ورتب على القيام بها فضلاً عظيماً، وأجراً كبيراً، يقول عز وجل: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين)[النساء:36].

وروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما شيئاً)، قال الإمام ابن بطال تعليقاً على هذا الحديث: "حقٌ على من سمع هذا أن يعمل به ليكون رفيق النبي e، ولا منـزلة أفضل من ذلك".

وفي الحديث عند الإمام أحمد وغيره عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله e قال: (من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله، كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمةٍ أو يتيم عنده، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وفرَّق بين أصبعيه السبابة والوسطى).

وإن من أسباب حلول الخير والبركة في البيوت: أن يُكفل فيها يتيم ويحسنَ إليه ويُبَر به، ففي الحديث عند البخاري في الأدب المفرد وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي  eأنه قال: (خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه).

 كما أبان رسول الهدى  eعن فضل المرأة التي تقوم على رعاية أولادها اليتامى، مُؤْثرةً ذلك على بعض حظوظها ورغباتها المباحة فقال عليه الصلاة والسلام:) أنا وأمرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة، وجمع بين أصبعيه السبابة والوسطى، امرأة ذات منصب وجمال آمت من زوجها، حبست نفسها على أيتامها حتى بانوا أو ماتوا). رواه أبو داود وأحمد واللفظ له.

وإن ملاطفة اليتيم، وإدخال السرور على نفسه من أسباب رِقَّة القلوب ولينِها ففي الحديث عند الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً شكا إلى رسول الله e قسوة قلبه، فقال عليه الصلاة والسلام: (امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين).

وإن في هذه النصوص الشرعية، والتوجيهات الإلهية، والإرشادات النبوية، -يا عباد الله- ويا أرباب الهمم العالية: لأعظم دافع على السعي في كفالة اليتامى، والقيام برعايتهم، والإحسان إليهم، تعرضاً لنفحات المولى سبحانه، وتحرياً لنيل ما رَتَّب على ذلك من فضل عظيم وأجر كبير.

وإنَّ كتاب الله العزيز ليستجيش عواطف المؤمنين، ويستثير مشاعر المحسنين نحو العناية باليتامى، والسعي في توفير الحياة الكريمة لهم، كما يُحَذِّرُ الأولياء من التقصير أو التهاون في القيام بما يجب عليهم لليتامى من حقوق وواجبات، يقول عزَّ وجل: (ولْيخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله ولْيقولوا قولاً سديداً)[النساء:9].

لقد شرع الإسلام لليتامى حقوقاً ألزم بها الأولياء والأوصياء، عليهم أن يتقوا الله تعالى في أدائها حق الأداء، و رعايتها حق الرعاية، بأن يُعنَوا بتحقيق مصالح اليتيم الدينية والدنيوية، كالعناية بالأبناء وفلذات الأكباد.

وإنَّ أولى مصالح اليتيم بالعناية، وأحقها بالرعاية أن يُجتهد في استصلاح دينه وأخلاقه بتنشئته على تعاليم الدين القويم، وآداب الشرع المبين، حتى يشب سليم المعتقد، صحيح الديانة، محافظاً على التكاليف الشرعية، والواجبات الدينية، مهذباً في أخلاقه قويماً في سلوكه وآدابه، مجتنباً سيء الأخلاق ومساوءها، مع الاعتناء بالرفق واللين، والتلطف في التوجيه والتقويم، والحذرِ من الإساءة إليه، أو القسوةِ والغلظةِ عليه إلا أن يُحتاج إلى شيء من ذلك بقصد التأديب والتقويم بالنافع غير الضار، وليكن من غير إيذاء وإيلام، أوتعنيف وإذلال، فقد قال الله عز وجل: (فأما اليتيم فلا تقهر)[الضحى:9]، وقال تعالى: (أرأيت الذي يكذب بالدين،فذلك الذي يدع اليتيم)[الماعون:1-2]، قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "الذي يَدُعُّ اليتيم هو الذي يقهره ويظلمه حقه، ولا يطعمه ولا يحسن إليه".

وإن من حق اليتيم أن يوجَّه إلى التعليم والتثقيف بما يلائم طبعه وميله من علوم ومعارف مفيدة، أو مهن شريفة نافعة، تكون سبباً في استغنائه بنفسه في مستقبل حياته، ليكون فرداً صالحاً، وعضواً نافعاً لأهله ومجتمعه، وإن من البر باليتيم، ومن آكد حقوقه أن يعنى بحفظ ماله إن كان ذا مال، والإنفاقَ عليه منه بالمعروف، والعملَ على تنميته واستثماره في الأوجه المشروعة، وعلى الأولياء والأوصياء أن يتقوا الله تعالى في أموال اليتامى، وليحذروا من إضاعتها، أو اختلاس شيء منها، أو الاستيلاءِ عليها ظلماً وعدواناً، استغلالاً لضعفهم وعدم إدراكهم، فإن ذلك من كبائر الذنوب، وعظيم الآثام، توعد الله تعالى مرتكبيه بأشد أنواع العذاب، بأن يُصْلَوا في نار السعير وبئس المصير، يقول عز شأنه: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)[النساء:10]، ويقول جل وعلا: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حُوباً كبيراً)[النساء:2]، أي: ذنباً كبيراً وجرماً عظيماً. وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي  eقال: (اجتنبوا السبع الموبقات - أي المهلكات-­ وعَدَّ منها: أكل مال اليتيم)، إلا أن الله عز وجل قد رفع الحرج عن الأولياء، وأباح لهم الأكل من أموال اليتامى بالمعروف، إن كانوا من ذوي الفقر والحاجة، مقابل ما يقومون به من رعاية وعناية، ووجه سبحانه إلى الترفع عن ذلك في حال الغنى واليسار، حتى إذا ما بلغ اليتيم رشده، وكان قادراً على حفظ ماله وإصلاحه، فليُدفع إليه كاملاً غير منقوص، كما قال عز وجل: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليه أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبِداراً أن يَكْبَروا ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً)[النساء:6].

فهذه يا عباد الله من أهم الحقوق التي فرضها الإسلام لليتامى، وأوجب على الأولياء القيام بها، وجماع ذلك كله أن يُسعى في جلب المصالح لهم، ودفع المفاسد والأضرار عنهم، كما قال جل وعلا: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم)[البقرة:220].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى ربكم لعلكم تفلحون، ولتعلموا عباد الله أن من أجلِّ الطاعات، وأفضل القربات: كفالةَ اليتامى، والسعيَ في استصلاحهم، والقيامَ على شؤونهم، والمساهمةَ في إعانتهم، وآكد ما يكون ذلك عند اشتداد الحاجة، كما هو الحال في بعض البلاد التي تعاني أحوالاً مؤلمة، جراء ما حلَّ بها من محن ورزايا، وما أصابها من البأساء والضراء، بسبب حروب طاحنة، أو حوادث مروعة، خلَّفت كثيراً من الأرامل واليتامى، هم في أمسِّ الحاجة إلى الدعم والمساندة من قبل إخوانهم المسلمين.

وقد وفق الله تعالى بعض أهل الغيرة من ذوي البر والإحسان، والخير والصلاح، فبذلوا جهوداً حثيثةً لمساعدة إخوانهم المنكوبين، فأسسوا الجمعيات الخيرية، والمؤسسات الإنمائية، التي تُعنى بكفالة اليتامى، ورعايةِ الفقراء، وتهيئةِ وسائل الحياة الكريمة لهم، فأنشأوا لهم المساكن والملاجئ، ودورَ التربية والتعليم والمشافي، وإن من مقتضى الأخوة الإيمانية: دعمَ هذه الأعمال الخيرة، والجهودِ الموفقة، مادياً ومعنوياً، وإعانتَها على أداء رسالتها السامية، سواء كانت على مستوى الأفراد أو الجمعيات أو الهيئات.

وإنَّ بذل الأموال من الزكوات والصدقات في هذا السبيل، من أفضل أنواع البر، وخير دروب الإحسان، كما قال عز وجل: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكينِ وابنِ السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم)[البقرة:215].

الحمد لله ولي الصالحين، ومثيب الطائعين، أحمده سبحانه وأشكره، يحب عباده المحسنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الصادق الوعد الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأكرمين، والسادة الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">