حرمة البلد الحرام

 

 

الحمد لله رب العالمين، يخلق ما يشاء ويختار، وهو الحكيم العليم، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه ونعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، نبيه المجتبى، وحبيبه المصطفى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، وبدور الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم حق تقاته، واشكروه سبحانه على ما أنعم به عليكم من نعم عظمى، وآلاء تترى (وإنْ تعدوا نعمةَ الله لا تحصوها)[إبراهيم: 34].

عباد الله: لقد خلق الله عز وجل الخلق بقدرته، وفضَّل بعضهم على بعض بحكمته وإرادته، واصطفى سبحانه من خلقـه ما يشاء تشريفاً منه وتكريماً( وربك يخلقُ ما يشاءُ ويختار)[القصص: 68].

فقد اصطفى المولى سبحانه وتعالى هذا البلد الحرام على سواه من البلاد، وشرفه على غيره من الأمكنة والبقاع، وخصَّه ببيته العتيق الذي جعله مثابة للناس وأمناً، فهو أول بيت وُضع للناس مباركاً وهدىً للعالمين، ومهوى أفئدة المؤمنين، وملتقى جموع المسلمين، وقبلةُ أهل الإسلام.

فيه بُعث رسول الهدى e، فشرفت به البلاد، وسعد به العباد، وأنزل الله تعالى عليه فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى و الفرقان، فمِن هذه الرحاب الطاهرة والمواطن المقدسة انبلج نور الإيمان، وعلت راية التوحيد، وانطلقت كلمة الحق مدوِّية في الآفاق، تدعو إلى دين الله القويم، وإخلاصِ العبودية لله رب العالمين، وقطعِ علائق الشرك والوثنية، حتى استضاءت بنور الوحي المبين المشارقُ والمغاربُ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأودع الله عز وجل في قلوب عباده المؤمنين تعظيمَ بيته الحرام والشوقَ إليه، وجبل القلوبَ على مهابته، والنفوسَ على إجلاله، والسعي في الوصول إلى رحابه المشرَّفة، وساحاتِه المباركة، والتوافدِ إليه من كل فجٍّ عميق، في كل وقت وحين، حُجَّاجاً ومعتمرين، استجابةً لأمر الله، وتحقيقاً لنداء خليله عليه الصلاة والسلام، أملاً في حط الأوزار، والخطايا والآثام، والعفوِ عن الزلات، وتكفيرِ السيئات، ورفعِ الدرجات، والفوزِ برضوان من الله ورحمة.

ولقد خص ربنا عزّ وجلَّ أهلَ بلده الحرام، والوافدين إليه بمزيتين جليلتين، ونعمتين عظيمتين، بهما تحصل السعادة، وتحل السكينة والطمأنينة، وهما الأمن ورغد العيش، امتن الله بهما على عباده، ونوَّه بهما في كتابه، فقال سبحانه: ( أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمراتُ كل شيء رزقاً من لدنَّا ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون)[القصص:57]، فما برح هذا البيت العظيم، وما برحت هذه الرحاب المباركة محفوظةً بحفظ الرحمن عبر العصور والأزمان، ومع تطاول الدهور والأعوام، محفوظةً بحفظ الله، ممنوعةً بقدرة الله عن أيدي الجبابرة الظالمين، والطغاةِ المفسدين، فما أراد أحدٌ بهذا البيت أو أهله سوءاً إلا عاجله الله بالعقوبة، وفيما قصه الحق سبحانه في محكم التنـزيل عن أصحاب الفيل، وما أنزل  عليهم من العـذاب الأليم لعبرة للمعتبرين، وذكرى للغـافلين ( ومنْ يُرِدْ فيه بإلحاد بظلم نُذِقْهُ من عذابٍ أليم) [الحج:25].

أيها المسلمون: إن من تعظيم الله تعالى لهذا البيت الحرام أنه جعله حرماً آمناً، يأمن فيه كلُّ شيء، يأمن فيه الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ويأمن فيه الصيدُ من الاصطياد، والشجرُ والنباتُ من القطع والاحتشاش، ولذا وصفه الحق سبحانه في كتابه الكريم بأنه البلد الأمين، والبلد الآمن، وأنَّ من دخله فهو آمن، فقال عز شأنه: (وهذا البلدِ الأمين)[التين:3]، وقال سبحانه: (أو لم نمكِّن لهم حرماً آمناً) [القصص:57]، وقال جل وعلا: (ومن دخله كان آمناً)[آل عمران:97].

والمعنى في هذه الآيات كما قال المفسرون: إنه يجب تأمين داخله وحمايتُه، والحذرُ من التعرض له بأي سوءٍ أو أذى، آدمياً كان أو غيره مما يصاد من الطير والحيوان ما لم يكن مؤذياً.

ولقد أوضح رسول الهدى e يوم فتح مكة حرمةَ هذا البلد الحرام، وأبان للأمة عن مكانته في الإسلام، وحرمة أهله والوافدين إليه، فقد جاء في الحديث عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي e قال يوم فتح مكة: (إنَّ هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعةً من نهار، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضد شوكه، ولا يُنَفَّر صيده، ولا يَلتَقِطُ لُقَطَتَه إلا من عرَّفها، ولا يختلى خلاه، فقال العباس بن عبدالمطلب: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لِقَيْنِهِم ولبيوتهم، قال e: إلا الإذخر). رواه البخاري ومسلم.

وفي لفظ آخر لهما، أنَّ رسول الله e قال: (إنَّ مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإنْ أحدٌ ترخص بقتال رسول الله فيها، فقولوا له: إنَّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعةً من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلِّغ الشاهدُ الغائب).

ألا فلتتقوا الله أيها المسلمون ولتعظموا بيته الحرام، وبلده الآمن، وإن من تعظيمه الاستقامةَ فيه على الطاعة، والسيرَ على نهج المتقين، وسنن الصالحين، وإخلاصَ الدين لله وحده بجميع أنواع العبادة، وعدمَ الالتفات لسوى الحق سبحانه كائناً من كان، والحذرَ من انتهاك حرمات الله فيه، أو التعرضِ لأهله والوافدين إليه بظلمٍ أو أذى، فإن لهذا البيت عند الله حرمةً عظيمةً، غير أن المؤمن أعظمُ عند الله حرمةً منه.

وإن في تحريم الله عز وجل تنفيرَ الصيد، وقطعَ الشجر، وعضدَ الشوك في هذا البلد الحرام، مع ما في الشوك من الأذى، لآكد دليل على عظم حرمة المؤمن عند ربه عز وجل، فاحذروا أيها المؤمنون من انتهاك حرمات الله وشعائرِه، وحرماتِ إخوانكم المؤمنين، وعظِّموا بيتَ ربكم، وبلدَه الآمن: (يا أيها الذين آمنوا لا تُحِلُّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام)[المائدة: 2].

عباد الله: إن هذا البلد الحرام مكان تطهير النفوس، وصفاءِ القلوب، وتزكيتِها بنور الإيمان وصالح الأعمال، والتخلصِ من أدران الذنوب، وأوضارِ الفواحش والآثام، إلا أن من عظيم الأسى ما يُرى من حال البعض منا من عدم استشعارٍ لقدسية هذه الأماكن المشرفة، والرحاب الطاهرة، واستهانة بحرمتها في مظاهر مألوفة للعيان، من تقصير في الواجبات الشرعية، ولا سيما الصلاة التي هي عماد الدين، وركنه القويم، وإهمالٍ لبعض شعائر الدين القويم، وما يُرى من ارتكاب المحرمات، وعدم المبالاة باقتراف المعاصي والفواحش والمنكرات، والاعتداء على عباد الله الآمنين فيه، اعتداءٌ على الأنفس، واستطالةٌ في الأعراض، واستيلاءٌ على الأموال، ومنعٌ للحقوق، واحتقارٌ لعباد الله المؤمنين، وازدراءٌ للضعفاء والفقراء والمساكين من عباد الله الصالحين، وغير ذلك من المخالفات والمعاصي، فلم يراع أولئك حرمة هذا البلد الأمين، ولا حرمات إخوانهم المسلمين، غافلين أو متغافلين عما يجره ذلك عليهم من وزر كبير، وإثم عظيم.

ألا يخشى أولئك من سخط الرب جل جلاله، وتحولِ عافيته، وفُجاءةِ نقمته، واستجابةِ دعوات المظلومين، حين تنطلق من جوار هذا البيت العتيق، فتُفتح لها أبوابُ السماء، إذ ليس بينها وبين الله حجاب، وقد قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) أخرجه الشيخان.

فاتقوا الله عباد الله، واستشعروا على الدوام قدسية بلد الله الحرام، وشرفوه وعظموه فإن ذلك من تقوى القلوب.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إنَّ أول بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين فيه آياتٌ بيناتٌ مقامُ إبراهيم ومن دخله كان آمناً)[آل عمران: 96].

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، و حبيبه وخليله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقاته، وتذكروا أن من تفضيل الله عز وجل لهذا البلد الحرام ما خصَّه به من عبادات لا تتأتى في سواه من البلاد، وما خصه به سبحانه من مضاعفة الثواب والحسنات، فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، وكل الأعمال الصالحة فيه تضاعف، كما نص على ذلك بعض أهل العلم، كما أن المعصية فيه أعظم من المعصية في غيره، فهي في هذا البلد الحرام أعظم ذنباً، وأشد إثماً، ولم يؤاخذ الله عز وجل أحداً على الهمِّ بالمعصية، إلا في هذا البلد الحرام، زيادة في التأكيد على رعاية حرمته، وإجلاله وتعظيمه، ولذا يقول سبحانه: (ومن يُرِدْ فيه بإلحاد بظلم نُذِقْهُ من عذابٍ أليم)[الحج:25]، والإلحاد هو الميل عن شرع الله ودينه، إما بترك واجب من واجبات الدين، أو ارتكاب معصية من المعاصي، أو انتهاك حرمة من حرمات الله، فإذا كان العبد مؤاخذاً بمجرد الهم والعزم على العصيان في بلد الله الحرام وإن لم يفعله، فما بالكم أيها المؤمنون بمن يفعل المعاصي، ويرتكب الفواحش والآثام، ويهمل ما أوجب الشارع عليه من واجبات الدين، ورعاية الحرمات، دون مبالاة أو اكتراث، ولا خوف من بأس الله الشديد، وعذابه الأليم.

فاتقوا الله أيها المسلمون، واستشعروا مكانة هذا البلد الحرام عند ربكم، واقدروه حق قدره، وعظموه في النفوس، وأجلوه في القلوب إجلالاً يظهر أثره في الاستقامة على طاعة الله، والإنابة إليه، والبعد عن معصيته، والحذر من مخالفة أمره، فإن ذلك من تعظيم حرمات الله، وقد قال عز شأنه: (ومن يعظِّم حرماتِ الله فهو خير له عند ربه)[الحج: 30].

المرفقالحجم
ملف 30حرمة البلد الحرام.docx35.68 كيلوبايت
 

 

الحمد لله رب العالمين، يخلق ما يشاء ويختار، وهو الحكيم العليم، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه ونعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، نبيه المجتبى، وحبيبه المصطفى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، وبدور الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى." data-share-imageurl="">