شـؤم المعاصـي
الحمد لله الحليم التواب، (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب)[غافر:3]، أحمده سبحانه وأشكره، كتب العزَّ لمن أطاعه واتقاه، وقضى بالذل والهوان على من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الواحد القهار، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، وعظموه تعالى في النفوس، وأجلوه في القلوب، فإن حقه سبحانه أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
ألا وإن من دلائل صدق الإيمان شكرَ الله عز وجل على الدوام، شكراً تلهج به الألسن، وتصدقه الجوارح والأعمال بالاستقامة على نهج الحق، وسلوك سبيل النجاة، والبعدِ عن أسباب الشر والغواية، والمعصية والضلالة، فإن أسوأ ما تقابل به نعم الله تعالى معصيته، والإعراض عن طاعته.
فلتحذروا عباد الله المعاصي والذنوب، فإنها شؤمٌ وبلاءٌ، وتمردٌ على المنعم جل وعلا، تورث الذل والمهانة، والخزي والندامة، وتكسب صاحبها قسوةً في القلب، ووحشةً في النفس، ويهون بسببها على الرب، وترتفع مهابته من الخلق (ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء)[الحج:18].
قال حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إن للسيئة ظلمةً في القلب، وسواداً في الوجه، ووهناً في الدين، وضيقاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق"، وقال بعض السلف في وصف حال العصاة: "إنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم النعال، فإن ذل المعصية على وجوههم بادية، أبى الله إلا أن يذل من عصاه"، فتلك من آثار المعصية على الفرد.
وأما أثرها على الأمة حين تفشو فيها المعاصي، وتعم فيها المنكرات، فإنها من أسباب محق البركات، وسحق الخيرات، وحصول التلف والهلاك في الأنفس والزروع والثمرات (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)[الروم:41].
وإن سنة الله تعالى في خلقه، ولا تبديل لسنته أنه ما ظهرت المعاصي في أمة إلا أذلتها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في ديار إلا أهلكتها، حتى تدع الديار بلاقع (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)[هود:102].
بسبب المعاصي عمَّ قوم نوح الغرق، وأهلكت عاداً الريحُ العقيم، وأخذت ثمودَ الصيحةُ، وقلب الله على قوم لوط ديارهم، وأمطر عليها حجارة من سجيل (فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)[العنكبوت:40].
وإن ما تعانيه بعض البلاد اليوم جراء ما حل بها من مصائب وكوارث، من فيضانات مغرقة، وزلازل مهلكة، وأعاصير مدمرة، وحوادث مروعة، وحروب طاحنة، وفتن مستديمة في أصقاع مختلفة من المعمورة، ما هو إلا لون من ألوان العقاب، حين يصر الخلق على العصيان، ويتمادون في الغي والطغيان.
وإن من عظيم الرزايا ألا يحس المعاقَب بالعقوبة، وأشدُّ منه أن يحصل السرورُ بما هو بلاء وفتنة، وذلك حين يفرح المرء باقتراف المعصية، ويُسَرُّ بقدرته على الخطيئة، وما ذاك إلا لاستيلاء الغفلة على القلب، والإعراض عن الحق، واتباع الشهوات والهوى.
أيها المسلمون: إن الذنوب والمعاصي شؤم وبلاء في شتى أشكالها، واختلاف ضروبها، غير أن من أسوأها أثراً، وأعظمها خطراً، وأشدها عقاباً: المجاهرةَ بها أمام الملأ، والإعلانَ بها بين الورى، دون خوف من الله، ولا حياء من عباد الله، وقد جاء الوعيد الشديد على ذلك فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) أي إن المجاهرين بالمعاصي ليسوا في عافية من عذاب الله، لما في المجاهرة من الجرأة على الله عز وجل، والاستهانة بعقابه، وإعانة الغير على المعصية، وشق الطريق له في الانحراف.
وإن من ألوان المجاهرة بالمعصية ما أوضحه رسول الهدى e بقوله: (ومن المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عز وجل، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه).
وإن من عظيم الأسى ما يرى من المجاهرة بالمعاصي في بعض المجتمعات المسلمة اليوم، كالإهمال لشعائر الإسلام، وفي طليعتها الصلاة التي هي عماد الدين، وما يشاهد من اقتراف لكبائر الذنوب، كالتعامل بالربا، والتحايل على أكل أموال الناس بالباطل، وشربِ الخمور والمسكرات، وتعاطي المخدرات، وارتكابِ الفواحش والآثام، وفشوِ المنكرات ورذائل الأخلاق، ومستقبح العادات، وخلعِ جلباب الحشمة والحياء، والتبرجِ والسفور في النساء، والإغراءِ بالفتنة، وارتفاعِ أصوات المعازف والمزامير، وغيرِ ذلك من بلاء عريض، وفساد كبير، وخطر عظيم على الأخلاق والدين، يساعد على ذلك ويُذْكيه وسائل الإعلام المختلفة، ولا سيما ما يبث عبر الفضائيات العالمية.
فإلى متى نظل يا عباد الله غافلين أو متغافلين عما يجب علينا لله تعالى من طاعةٍ واستقامةٍ على نهج الحق والهدى، وبعدٍ عن مزالق الشيطان، وسبل الغواية والضلالة، فإنه ما يصيب الناس من مصائب عامة أو خاصة إلا بسبب المعاصي، كما قال عز وجل: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير)[الشورى:30].
وما أصاب أمة الإسلام في أعقاب الزمن من ضعف وهوان، حتى تكالب عليها الأعداء من كل جانب، وتحكموا في كثير من قضاياها، واستولوا على كثير من خيراتها ومقدراتها، وقاموا باحتلال بعض بلادها، وفي مقدمتها الأرض المباركة فلسطين ومسجدها الأقصى المبارك، أولى القبلتين، وثالث المسجدين الشريفين. كل ذلك لم يحصل إلا حين ضعف تمسك المسلمين بالإسلام، وابتعد كثير منهم عن حقيقة الدين الخالص.
فاتقوا الله أمة الإسلام، ولتحذروا المعاصي والذنوب، ولتقبلوا على ربكم وطاعتِه، ولتستقيموا على شرعه ودينه، يكتب الله تعالى لكم العزَّ والتمكين في الدنيا، والفوزَ والنجاة يوم الدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون،أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون،أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون،أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون)[الأعراف:96-99].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقاته، واشكروه سبحانه على ما تنعمون به في هذه البلاد المباركة من أمنٍ وارف، ونعمٍ وافرة، وخيرات مترادفة، فاقدروا هذه النعم حق قدرها، وقيدوها بالشكر لله جل وعلا، واحذروا المعاصي والذنوب، والمجاهرةَ بالفواحش والآثام، واخشوا سخط الجبار جل وعلا، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وإنه ما حصل البلاءُ العام في بعض البلاد، ولا وقعت المصائبُ المتنوعة، والكوارثُ المروِّعة، ولا فشت الأمراض المستعصية التي لم يكن لها في الماضين ذكر، ولا انحبس القطر من السماء إلا نتيجةَ الإعراض عن طاعة الله عز وجل، وارتكابِ المعاصي، والمجاهرةِ بالمنكرات، كما ورد في الحديث الذي رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله e: (ولم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).
فاتقوا الله أيها المسلمون وأنيبوا إلى ربكم وأطيعوه، واستغفروه وتوبوا إليه، فإنه سبحانه يقبل التوبة، ويعفوا عن الزلة، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
المرفق | الحجم |
---|---|
33شـؤم المعاصـي.docx | 35.42 كيلوبايت |