خطر الربا على الفرد والمجتمع الأخلاق
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرع لنا أفضل الشرائع والأحكام، وأبان لنا الحلال والحرام، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى في كل ما تأتون وتذرون لعلكم تفلحون، واشكروه سبحانه أن هداكم إلى هذا الدين القويم، ومنَّ عليكم بهذا الشرع المبين، الذي ختم به الشرائع السابقة، وكتب له البقاء والدوام، وجعله صالحاً لكل زمان ومكان، لما اشتمل عليه من تشريعات سامية، وعدالة في الأحكام ظاهرة، تحققُ المصالح، وتدرأ المفاسد، ألا وإن من أجَلِّ ما شرع الإسلام ما جاء به من نظام مالي فريد، لم تر البشرية له نظيراً ولا مثيلاً، ذلك أنه منهج رباني، يقوم على الحق والعدل، ويتسم بالمرونة واليسر، يحفظ الحقوق، ويراعي قواعد الأخلاق والآداب، ويتوافق والفطرَ السليمة، والألبابَ السوية، فجاء بحمد الله وفضله منهجاً قويماً، ومسلكاً رشيداً، محققاً لمصالح العباد، ومقتضيات الحياة.
فلقد أباح الإسلام التعامل بأنواع المعاملات، وجعل الأصل فيها الجواز، ولم يحرِّم منها إلا ما كان فيه ضرر بفرد أو مجتمع، وجعل لهذا التحريم قواعد وضوابط واضحة المعالم.
وإنَّ من آكد ما جاء الإسلام بتحريمه، والنهي عنه من المعاملات المالية التعاملَ بالربا، فلقد نهى عنه الإسلام أبلغ نهي، وحذر منه أشد تحذير، بل جعله في طليعة المحرمات، ومن أكبر الكبائر وعظيم الموبقات، فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله e قال: (اجتنبوا السبع الموبقات - أي المهلكات - فذكرهن e وعدَّ منهن الربا).
وإنَّ كتاب الله تعالى لم يبلغ من التهديد في معصية من المعاصي ما بلغ من التهديد في شأن الربا، وما ذاك إلا أنه يا عباد الله أفظعُ تعامل مُنِيَت به الإنسانية، وأبشعُ تعامل تواضعت عليه البشرية، ولذا جاء تحريمه في جميع الشرائع السماوية، لما يحصل جراء التعامل به من جرائر ومفاسد عظمى، فكم أحدث بين الناس من أحقادٍ وضغائن، وعداوات وبغضاء، وإحن وشحناء، وتقويض لعرى المودة والإخاء، وكم أثقل كاهل الفقراء بالديون، وأفسد مال الأغنياء حين يختلط فيها هذا المال الحرام، وكم حصل بسببه من محق للبركات، وقطع لروافد النعم والخيرات (يمحق الله الربا ويربي الصدقات)[البقرة:276]، وكم أذل من شعوب ودول كانت لها العزة والمنعة، فوقعت بسبب الربا في ذُلِّ الدَّين، وتحت وطأة الأعداء.
فمن أجل ما في الربا من أضرار عظمى، ومفاسد كبرى على الأمة أفرادها ومجموعها لا حصر لها، حرمه الإسلام أبلغ تحريم، وتوعد آكليه بأشد أنواعِ العذاب، حيث أشهر الله عز وجل الحرب على المرابين، ومن أشهر الله عليه الحرب، فلا مناص له من الخذلان والبوار، والشقاء في الحال وفي المآل، وبئس المصير ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون)[البقرة:278-279].
وإن مما جاء من الوعيد على المرابين، والعقابِ لهم في الدنيا قبل الآخرة، ما روى ابن ماجه والحاكم وصححه عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (ما أحدٌ أكثرَ من الربا إلا كان عاقبةُ أمره إلى قلة). وما ذلك إلا أنه يمحقُ البركة، ويَذْهَبُ بالحلال، ويورث الإفلاسَ والذل والهوان، أما عقوبة الآخرة فإنها أشدُّ وقعاً، وأعظمُ بأساً، أخبر عنها رسولُ الله e فيما رواه ليلة عرج به بقوله: (لما عرج بي سمعت في السماءِ السابعة فوق رأسي رعداً وصواعق، ورأيت رجالاً بطونهم بين أيديهم كالبيوتِ فيها حياتٌ وعقارب تُرى من ظاهرِ بطونهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء أكَلة الربا). رواه الإمام أحمد وابن ماجه، وروى الطبراني وغيرُه عنه e أنه قال: (من أكل الربا بُعث يوم القيامة مجنوناً يتخبط، ثم قرأ e قوله تعالى: ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المَسِّ)[البقرة:275].
وروى الحاكمُ وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي e قال: (أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة، ولا يذيقهم نعيمها، مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه، إلا أن يتوبوا).
فهل يليق بمسلم يا عباد الله يسمع هذه الزواجر والقوارع من الشارع، ثم يقدم على التعامل بالربا أخذاً أو بذلاً، وكيف يستسيغ أن يُطعم نفسه وأهله وولده منه، وهو أشدُّ أنواع المال الحرام، وقد روي عنه e أنه قال: (والذي نفسُ محمدٍ بيده إن العبدَ ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتَقَبَّلُ منه عملٌ أربعين يوماً، وأيما عبدٍ نبت لحمه من سحتٍ فالنارُ أولى به). رواه الطبراني وغيره، وفي الحديث الصحيح عند مسلم وغيره (أن رسول الله e ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبرَ، يمد يديه إلى السماء يارب يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنى يستجابُ لذلك). فلقد استجمع هذا الرجل من صفات الحاجة والمسكنة إلى ربه ما يدعو إلى رثاء حاله، ويؤكد شدة افتقاره، غير أنه قطع صلته بربه بما هو عليه من استعمال للحرام، فحال ذلك بينه وبين قبول دعائه، وماذا يبقي للعبد إذا حُجب دعاؤه، وحيل بينه وبين رحمة الله.
وثمة يا عباد الله عقوبة جماعية يذهب فيه البرُّ والفاجر، يستوجبها المجتمع إذا شاع فيه الربا، وانجرف في تيار هذا الوباء، أشار إليها المصطفى e فيما رواه الإمام أبو يعلى بإسناد جيد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي e أنه قال: (ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله). وروى الإمام أحمد وغيره عن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي e أنه قال: (ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسَّنة)، أي بالقحط والجدب ومنع الغيث عنهم، جراء تمردهم على الله، وتعاملهم بالربا.
وإن المتأمل لما وقع ويقع من كوارث عامة، ومصائب متنوعة على بعض البلاد والمجتمعات، وما ينتج عن ذلك من أضرار بشرية ومادية عظمى، وما يحصل أيضاً من أزمات اقتصادية، وضائقات مالية على بعض الدول والمجتمعات الإسلامية، ليرى أن مردَّ ذلك هو الإعراض عن دين الله، وعدم تطبيق شرع الله على عباد الله، واستبدال ذلك بالقوانين الوضعية، والأنظمة البشرية في كثير من الدول الإسلامية، وارتكاب ما حرم الله ونهى عنه من ربا وغيره، فهل ندرك أيها المسلمون ذلك حقاً، فنعمل جاهدين على محاربة ما حرم الله تعالى ونهى عنه على مستوى الأفراد منا، وعلى مستوى الشعوب المسلمة، والحكومات الإسلامية، وأن نستقيم على شرع الله، بكل صدق وإخلاص، فهو مصدر قوتنا وسبيل عزنا، وأن نستوحي جميع أعمالنا، وأحكامنا التشريعية وأنظمتنا الاقتصادية، ومعاملاتنا المالية من تعاليم الشرع المبين الذي جاء بأفضل تشريع، وأوضح منهج وأصلحه للعباد والبلاد، حقق الله تعالى ذلك، ورد أمة الإسلام إلى حقيقة دينها رداً جميلاً إنه تعالى سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون، واتقوا النـار التي أُعِدَّتْ للكافرين، وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون)[آل عمران:130-132]
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه e. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم حق تقاته، ولتحذورا عباد الله التعامل بالربا، فإنَّ شرَّ المكاسب كسبُ الربا، فلقد فشا في هذا الزمان معاملات ربوية كثيرة، وإن من الورع وصدق الديانة أن لا يقدم المرء على ما اشتبه عليه من معاملات مالية، ولاسيما ما استجد في هذا العصر من معاملات مصرفية، حتى يسأل أهل العلم والفقه عن حكمها الشرعي، فما أفتوه بحله أخذ به، وما أفتوه بتحريمه اجتنبه، وما اشتبه منها تركه تورعاً: (ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).
ولتعلموا عباد الله: أن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم كلَّ وسيلة تؤدي إليه، وكل سبيل يعين عليه، وإنَّ الإسلام حين حرم الربا، حرم أخذه وبذله، وحرم الشهادة على عقده وكتابته، لأن ذلك من التعاون على الإثم، ولذا جاء اللعن على لسان رسول الهدى e لمن ارتكب شيئاً من ذلك، فروى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله e آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء).
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "الزائدُ والمستزيدُ في النار" يعني الآخذ للربا والمعطي له.
وإن من أسوأ ما شاع التعامل به من أنواع الربا لدى كثير من الناس، أخذَ فائدة على ما يودع من أموال لدى المصارف وغيرها، أو دفع زيادة على ما يستقرض منها، فلتحذورا هذا النوع من الربا وغيره من سائر الأنواع، فإنه لا يجوز لمسلم في أي حال من الأحوال أن يُقدم على الربا أخذاً أو بذلاً، ولا أن يشهد على عقده، أو يتولى كتابته، ولا أن يأخذ أجرة على ذلك، لأن ما حرم فعله حرم أخذ العوض عليه.
فلتتقوا الله عباد الله، ولتحذروا التعامل بالربا، أو التحايل على أخذه بأي شكل من الأشكال، فإن الله تعالى لا يخفى عليه من أعمالكم خافية، ولتستغنوا بما قسم الله لكم من الحلال، يكتب الله تعالى لكم الحياة الهنيئة، والسعادة الأبدية، ويهيئ لكم الرخاء الدائم والرزق الواسع ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه)[الطلاق:2-3].