شؤم الحسد وخطره

 

الحمد لله الذي لا تغيض ينابيع فضله، ولا تضطرب موازين عدله، له غيب السموات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، وما الله بغافل عما تعملون، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الفضل، وسابغ العطاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذي الآلاء والنعماء، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أصفى الناس قلباً، وأزكاهم نفساً، وأعظمهم خلقاً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأوفياء، والسادة الحنفاء، ومن سلك سبيلهم واقتفى.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم حق التقوى، فإنها زاد المؤمنين، ونهج الصالحين، وسبيل السعادة في الدارين.

من اتقى الله تعالى حقاً وصدقاً، جعل له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل همٍّ فرجاً، ومن كل عسر يسراً، ومن كل خوف أمناً، وأورثه طمأنينةً في القلب، وانشراحاً في الصدر، وسلامة من شرور النفوس، وأمراض القلوب، حتى يغدو طيب القلب، نقي السريرة، يحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، تحقيقًا لقوله e " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

ألا وإن من أشد أمراض القلوب خطراً، وأكبرها إثماً، وأعظمها ضرراً على الأفراد والجماعات: داءَ الحسد، إنه داءٌ عضال، ومرضٌ فتاك، ما اتصف به امرؤ إلا دلَّ على سوء الطوية، وقبح السريرة، وضعف الديانة، وقلة اليقين، وما حلَّ في نفسٍ إلا وأوردها موارد العطب والهلاك، وما فشا في أمة إلا حلَّ فيها الإحنُ والشحناء، وعمَّ فيها العداوةُ والبغضاء، وفرقها شيعاً وأحزاباً، فلا أُلفة ولا إخاء في مجتمعاتها، ولا مودة ولا رحمة بين أفرادها.

قال بعض أهل الحكمة: "الحسد عقيدُ الكفر، وحليفُ الباطل، وضد الحق، منه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومفرِّق كل جماعة، وقاطع كل رحم من الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقِّح الشر بين الحلفاء" فصفة هذه بعض آثارها، وشئٌ من مساوئها وأضرارها، لا غرو أن يُحَرِّمها الإسلام، ويشدد في النهي عنها، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله e قال: (لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً). وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عنه e أنه قال: (دب إليكم داءُ الأمم قبلكم الحسدُ والبغضاء، والبغضاءُ هي الحالقة، أما إني لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين).

عباد الله: إن الحسد ذنبٌ عظيم، وجُرمٌ كبير، وهو أولُ ذنبٍ عُصي اللهُ به في الأرض وفي السماء، فهو سبب إخراج إبليس من الجنة، وطرده من رحمة الله وقربه، حينما حسد آدمَ عليه الصلاة والسلام، وأبى واستكبر عن السجود له، وهو الذي حمل ابنَ آدم على قتل أخيه فأصبح من الخاسرين، وهو الذي منع أهل الكتاب من التصديق بما جاء به النبي e والإيمانِ به، مع معرفتهم بأن ما جاء به حق، وأنه نبيٌ مرسل من عند ربه، كما قال عز شأنه: (وَدَّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)[البقرة:109].

وهو الذي دفع بكفار قريش إلى معاداة النبي e وردِّ دعوته، حتى قال بعض ساداتهم: "إني لأعلم أن محمداً صادق، وما كذب محمدٌ قط، و لكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية، والحجابة والنبوة، فماذا يبقى لسائر قريش" وصدق الله العظيم إذ يقول: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)[الأنعام:33].

إن للحسد يا عباد الله مساوئَ عظمى، ومفاسدَ كبرى، إذ قد يحمل على ارتكاب أنواع من الإثم، واقتراف صنوف من المعاصي، مِنْ جحْدٍ للحق، وقولٍ بالباطل، وإخفاء للمحاسن، وإظهار للمعايب، بل وربما حمل على إلحاق الأذى والضرر بالمحسود ظلماً وعدواناً، في أساليب مختلفة، ووسائل متنوعة في واقع الناس، وإن من أقل ما قد ينتج عنه الوقيعة في عرض المحسود بالغيبة والنميمة والبهتان، ومحاولة النيل من كرامته، والحط من قدره ومكانته، وكفى بذلك إثماً وزوراً.

ولو تأمل الحاسد في واقعه حقاً، لعلم أنه يعترض على ربه جل وعلا في أمره وحكمه، وقضائه وقدره، فهل يقع في الوجود سوى ما قدَّره سبحانه وكتبه، وهل يحصل لأحد من خير ونعمة إلا بتقدير الله عز وجل وإرادته، لحكمة يشاؤها سبحانه، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "لا تُعادوا نعم الله. قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله".

ولقد شدد القرآن الكريم في النهي عن الحسد، فقال الحق سبحانه وتعالى:( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً)[النساء:54]. وقال عز وجل: (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً ورحمةُ ربك خير مما يجمعون)[الزخرف:32].

قال بعض السلف: "من رضي بقضاء الله تعالى وقدره لم يُسخِطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد"، ولو لم يكن في الحسد إلا ما يجلبه على صاحبه من الأذى، وما يورثه من غم ونكد، وهمٍّ وقلق، لكان رادعاً له عن الاتصاف به، وحاملاً له على السلامة منه، فكيف والحال أن الحاسد لا يكاد يسمع بخير حصل لفلان، أو نعمة أنعم الله بها على سواه من الأنام، إلا ويمتلئ قلبه غلاً وحسداً، وتمتلئ نفسه حسرة وجزعاً، فليس له في الحياة راحة، ولا لرضاه غاية، والمحسود يتقلب بنعم الله، ولا يشعر بشيء مما في نفس حاسده من الآلام والحسرات.

قال بعض الحكماء: "ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود، نَفَسٌ دائم، وهمٌّ لازم، وقلبٌ هائم، ولو لم يكن من الحسد إلا أنه خُلُق دنيء، يتوجه نحو الأكفاء والأقارب، ويختص بالمخالط والمصاحب، لكانت النـزاهة عنه كرماً، والسلامةُ منه مغنماً، فكيف وهو بالنفس مُضِر، وعلى الهم مُصِر، حتى ربما أفضى بصاحبه إلى التلف، من غير نكاية في عدو، ولا إضرار بمحسود" وقيل في منثور الحكم: "قاتل الله الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله".

فهذه حال الحاسد في الدنيا، وضرره عليه فيها، أما ضرره على الدين فهو أكبر، وخطره على المرء في الآخرة أشد وأفظع، فهو من أسباب ذهاب حسنات المرء يوم القيامة، وكفى بذلك خسراناً مبيناً، روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي e قال: ( إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).

فاتقوا الله عباد الله، ولتراقبوا ربكم سبحانه في أقوالكم وأعمالكم، ولتنأوا بأنفسكم عن كل خلق ذميم حذَّر منه الإسلام ونهى عنه، حفاظاً على دينكم، وصيانة لأعراضكم، واتباعاً لنهج المتقين، واقتفاء لسنن الصالحين، وفي ذلك الفوز العظيم من الرب الكريم.

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا ربنا إنَّك رؤوفٌ رحيمٌ)[الحشر:10].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم لعلكم تفلحون، وتذكروا عباد الله أن الحسد من أسوأ خصال الشر التي قلَّ أن يسلم منه أحد من الخلق، غير أن الناس فيه بين مقل ومستكثر، إلا أن الله تعالى من لطفه بعباده، لا يؤاخذ على ما يقع في نفس المرء من الحسد مما لا طاقة له بردِّه ومنعه، ما لم يتجاوز ذلك إلى إساءةٍ للمحسود بقولٍ أو عمل، كما ورد ذلك في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم).

فعلى المؤمن الصادق في إيمانه، الحريص على سلامة دينه وعرضه، أن يجاهد نفسه في دفع الحسد والحذر منه، والإعراض عن أسبابه ودوافعه، وليُكفِّر عما يحصل منه بسبب الحسد، بالاستغفار والتوبة، والدعاء للمحسود والثناء عليه.

غير أن ذلك لا يكون إلا مع دين متين، ومروءة ظاهرة، وأخلاق زاكية، وتذكر واستحضار دائم بأن قضاء الله نازل، وحكمَه نافذ، وأن الحسد لا يرد نعمة أرادها الله لعبد، ولا يمنع خيراً وفضلاً أراده الله لمخلوق، كما قال عليه الصلاة والسلام لابن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام، وجَفَّت الصحف).

فإذا كان هذا ما يجب أن يعتقده المسلم، ويوقن به المؤمن، فعلام التحاسد والتنافس يا عباد الله، وقد قال الحق سبحانه: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون)[القصص:68].

المرفقالحجم
ملف 40شؤم الحسد وخطره.docx35.56 كيلوبايت
 

الحمد لله الذي لا تغيض ينابيع فضله، ولا تضطرب موازين عدله، له غيب السموات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، وما الله بغافل عما تعملون، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الفضل، وسابغ العطاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذي الآلاء والنعماء، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أصفى الناس قلباً، وأزكاهم نفساً، وأعظمهم خلقاً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأوفياء، والسادة الحنفاء، ومن سلك سبيلهم واقتفى." data-share-imageurl="">