في التحذير من الغِيبة

 

 

الحمد لله رب العالمين، يهدي من يشاء بفضله إلى صراط مستقيم، أحمده سبحانه وأشكره، أمر عباده بحفظ الجوارح عن الحرام، ونهى عن اقتراف المعاصي والآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العـلام، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله سيد الأنام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام، ومن سار على هديهم وسلك سبيلهم إلى يوم المعاد.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم حق تقاته، فإن في تقواه عز وجل العصمةَ من الضلالة، والسلامةَ من الغواية، وهي السبيل إلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.

عباد الله: من محاسن دين الإسلام، وسمو تشريعاته أن أحاط حرمات المسلمين، وأعراض المؤمنين، بسياج متين، ودرعٍ واقٍ حصين، من الصيانة والتبجيل، والإجلال والتكريم، فلا يُمَسُّ لمسلم حرمة، ولا يُنتهكُ له عرض، ولقد بلغ من عناية الإسلام بذلك أن أكَّد رسول الهدى e على رعاية هذا الحق في الجمع العظيم في حجة الوداع، بقوله e في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم وغيره: (إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا).

وتأكيداً على العناية بهذا الواجب للمسلم، فقد نهى الإسلام عن كل ما يحصل به النيل من حرمات المسلمين، أو التجني على أعراضهم، فحرَّم أنواعاً من الإثم، وصنوفاً من المعاصي، وإن من أعظم تلك المحرمات الوقوعَ في أعراض الناس بالغيبة، فإن الغيبة يا عباد الله مرتعٌ وخيم، وبلاءٌ عريض، بل إنها من عظائم الإثم وكبائر الذنوب، ما اتصف بها امرؤ إلا دل على سوء طويته، وضعف ديانته، وقلة مروءته، واستجلب بها المقت من الله، والازدراء من عباد الله، إنها ما فشت في مجتمع إلا حلَّت فيه الضغائنُ والأحقاد، والعداوات والبغضاء، والإحنُ والشحناء، والتقاطع والتدابر بين الناس، فما أسوأ أثرها، وما أقبح ضررها على الفرد والمجتمع، ولذا وقف الإسلامُ منها موقفاً صارماً، وحذر منها تحذيراً بالغاً، وصورها القرآن الكريم بأبشع صورة، فقال الحق سبحانه وتعالى في محكم التنـزيل:( ولا يغتبْ بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه مَيْتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله توابٌ رحيم)[الحجرات: 12]، فقد مثَّل الحقُ عز وجل ما يتناوله المغتاب من أخيه المسلم بهذا المثل الذي تشمئز منه النفوس، وتنفر منه الطباع، وهو أكل المرء لحم إنسان ميِّت، وأشدُّ من ذلك نفرةً، وأكثرُ منه فظاعةً، أن يكون ذلك الميت أخاه.

ولذا حذر رسول الله e أمته غاية التحذير منها، وأوضح حقيقتها بقوله: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه). رواه مسلم في صحيحه.

فذكرُ المرء أخاه المسلم بما يكرهه غيبةٌ محرمة، سواءٌ أكان ذلك العيب في خَلقه أو خُلقه، وسواءٌ أقاله بصريح القول، أو كان إشارةً أو إيماءً، أو همزاً ولمزاً، أو محاكاةً وتقليدا، فكلُّ ذلك غيبةٌ محرمة، وإن تظاهر أصحابها بخلاف ذلك، فإن للناس في الغيبة طرائق متعددة، وأساليب متنوعة، فربما أظهر بعضهم الغيبة في قالب صلاح وورع، وزهدٍ وديانة، أو إنكار منكرٍ وغضبٍ لله تعالى ولدينه، وغير ذلك من ضروب المخادعة لله ولخلقه، فيظهرون خلاف ما يبطنون، ويسرُّون ما لا يعلنون (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون)[البقرة: 9]، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى: "من الناس من يُخرِجُ الغِيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادةٌ أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أحبُّ الغيبة والكذب، وإنما أخبركم بأحواله، وربما قال: دعونا منه الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه وهضماً لجانبه، ومنهم من يحمله الحسدُ على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين الغيبة والحسد، ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تعجب، فيقول: عجيبٌ من فلان كيف وقع منه كذا وكذا!، ومنهم من يخرج الغيبة مخرج الاغتمام، فيقول: غمني ما جرى لفلان، فيظن من يسمعه أنه يغتمُّ له ويتأسف، وقلبه منطوٍ على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به، ومنهم من يُظهر الغيبة في قالبِ غضبٍ وإنكارِ منكر، ويُظهِر في هذا الباب أشياءَ من زخارف القول، وقصدُه غير ما أظهر، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب، والمخادعات لله ولخلقه". انتهى كلامه رحمه الله.

ولقد جاء عن رسول الله e أحاديث كثيرة في التحذير من الغيبة وبيان أنواع منها، فمن ذلك ما روى الطبراني وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي e، فقام رجلٌ، فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلاناً، أو قالوا: ما أضعف فلاناً، فقال النبي e: اغتبتم صاحبكم وأكلتم لحمه).

وروى أبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( قلت للنبي e حسبك من صفية كذا وكذا، قال بعض الرواة: تعني أنها قصيرة، فقال: لقد قلتِ كلمةً لو مُزجت بماء البحر لمزجته). قال الإمام النووي رحمه الله تعليقاً على قوله e (لمزجته): "أي خالطته مخالطة يتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها"، وهذا من أبلغ الزواجر عن الغيبة.

فتأملوا عباد الله كيف أنكر e هذا الكلام من الصحابة رضوان الله عليهم، وعدَّه نوعاً من أنواع الغيبة مع يسير ما قالوا في الظاهر، وانظروا إلى حال الكثيرين منا اليوم من الوقيعة في أعراض المسلمين دون مبالاة ومن غير اكتراث، وعموم البلوى بذلك في المجتمعات، حتى أصبحت الغيبة مجال أحاديث المجالس الخاصة والعامة، وأضحت لكثرة شيوعها بين الناس كأنها أمرٌ مألوف لا غضاضة في فعلها، ولا إنكار على مرتكبها، بل أصبحت شيئاً مستطاباً لدى البعض، ولا سيما في صفوف النساء، إذْ يجد أحدهم في الغيبة متنَفَّساً لما تنطوي عليه نفسه من ضغائن وأحقاد، فيظل في كل مجلس يجلسه يلوكُ لسانه في أعراض الغافلين من المؤمنين والمؤمنات، ويسرف في التجني على عباد الله بالسخرية والاستهزاء، والهمز واللمز، وتعداد المعايب، والكشف عن المثالب، بعبارات تنهش نهشاً، وبألفاظ تنضح بالسوء والفحشاء، لا يحجزه عن ذلك دين، ولا يمنعه مروءة ولا أدب، وكأنه قد سلم من العيوب، واستكمل الفضائل، وما درى أنه بهذا الصنيع إنما يقدحُ في ذاته، ويعيب نفسَه، ويكشف عما انطوت عليه من علل ومساوئ، ترفَّع عنها الفضلاء، وتحاشاها العقلاء، إذ لا يقع في أعراض الناس، ويشتغل بتجريحهم، إلا أقلهم حظاً من الدين والمروءة، ولذا قال بعض السلف لمن سمعه يغتاب: "قد استدللنا على كثرة عيوبك بما تكثر من عيوب الناس، لأن الطالب لها إنما يطلبها بقدر ما فيه منها"، وقال عَدِيُّ بن حاتم رضي الله عنه: "الغيبة مرعى اللئام"، وسمع قتيبة بن مسلم رجلاً يغتاب آخر، فقال له: "لقد مضغت مضـغة طالما لفظها الكرام"، وقال بعض العلماء: "لا يذكر في الناس ما يكرهون إلا سِفْلةٌ لا دين له".

فالغيبة يا عباد الله سيئةٌ بكل أنواعها، وشتى ضروبها، غير أنَّ من أسوئِها أثراً، وأعظمِها ضرراً، اغتيابَ أهل الفضل والعلم ممن لهم نفع عام في الأمة أو المجتمع، من ولاة الأمور، والعلماء والدعاة، وأهل الخير والصلاح، فإن الوقيعة في أعراض هؤلاء وأمثالهم أعظم إثماً، وأشد ذنباً، لما يترتب على غيبتهم من آثار سيئة عامة في الأمة.

وإن من منهج السلف الصالح رضي الله عنهم، الكفَّ عن غيبة ولاة الأمور، ومناصحتهم برفق ولين، دون تشهير بالعيوب، أو تعداد للمثالب بين الناس، لأن في ذلك إيغاراً لصدور الرعية على الولاة، ومن أسباب عدم السمع والطاعة لهم، ومدعاة لنشوء الفتن في البلاد، مما قد ينتج عنه مفاسد كبرى، وأضرار عظمى لا يعلم مداها إلا الله عز وجل.

وأما غيبة العلماء الراسخين، والدعاةِ الناصحين، فإنه مما يضعف مكانتهم في النفوس لدى العامة وطلاب العلم، ويقلل من قبول أقوالهم، والانتفاع بنصائحهم وتوجيهاتهم، وهم المبلغون لشرع الله ودينه، وقلَّ من تَعَرَّض للعلماءِ الرَّاسخين، والدعاةِ النَّاصحين، وأهل الخير والصلاح بشيء من الأذى إلا عوجل بالعقوبة، ولذا قال الإمام ابن عساكر رحمه الله: " إن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة".

عباد الله: حين حرَّم الإسلام الغيبة حرمها قولاً واستماعاً، ولذا فإن المستمع شريك القائل إن رضي ووافق، وإنَّ الشرع ليوجب على السامع أن ينكر على المغتاب، وأن يكفَّه عن التمادي في الغيبة، وأن يذُبَّ عن عرض أخيه المسلم، فقد جاء في الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله e قال: (من ردَّ عن عرض أخيه ردَّ الله عن وجهه النَّار يوم القيامة). رواه الترمذي وقال حديث حسن.

ورأى بعضُ السلف رجلاً يستمع لمن يشتم آخر فقال له: "نَزِّه سمعَك عن الخنا، كما تنـزِّه نفسك عن الكلام، فإن السامع شريك القائل، وإنه عمد إلى شر ما في وعائه، فأفرغه في وعائك، ولو رُدَّت كلمةُ جاهلٍ في فيه لسعد رادُّها ،كما شقي قائلها".

فاتقوا الله عباد الله، وتأدبوا بآداب الإسلام وتحلوا بأخلاق أهل الإيمان، واحفظوا ألسنتكم عما حرم الله تعالى عليكم، فقد قال الحق عز وجل: )ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد([ق:18]، وقال عليه الصلاة والسلام: (وهل يكبُّ النَّاسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم). رواه الإمام أحمد والترمذي.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)[الأحزاب:70-71].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقاته، واحذروا أسباب سخطه وعذابه، وتذكروا عباد الله أن من تعاليم الشرع المبين، ومن مقتضيات الأخوة في الدين: حفظَ الألسن عن الولوغ في أعراض الناس، وبيان معايبهم، وتعداد مثالبهم، واستكشاف ما ستروا، واستطلاع ما غَيبوا، فإن ذلك مما يتنافى مع رعاية حرمات المؤمنين، وصيانة أعراض المسلمين، وما تقتضيه أخوةُ الإيمان، ورابطةُ الإسلام، ولقد حذر رسول الهدى e أمته من الوقوع في شيء من ذلك، مبينا e جزاء ذلك وعقوبته في الدنيا والآخرة، بما في ذلك أبلغُ زاجر، وأعظمُ رادع عن اقتراف هذه الآثام، فقد جاء في الحديث عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه: لا تغتابوا المسلمين ولا تتَّبعوا عوراتهم، فإنه من يتَّبع عورة أخيه يتَّبع الله عورته، حتى يفضحه في بيته). رواه الإمام أحمد وأبو داود. ورويا أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله e:( لما عُرِج بي مررت بقوم لهم أظفارٌ من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟، قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم).

فاتقوا الله عباد الله، واحذروا من كل قول يغضب الرب جل جلاله، ويجلب سخطه ويُحِلُّ عذابه، فقد قال سبحانه: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثماً مبيناً)[الأحزاب:85].

المرفقالحجم
ملف 41في التحذير من الغِيبة.docx37.4 كيلوبايت
 

 

الحمد لله رب العالمين، يهدي من يشاء بفضله إلى صراط مستقيم، أحمده سبحانه وأشكره، أمر عباده بحفظ الجوارح عن الحرام، ونهى عن اقتراف المعاصي والآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العـلام، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله سيد الأنام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام، ومن سار على هديهم وسلك سبيلهم إلى يوم المعاد." data-share-imageurl="">