التربية والتعليم في ضوء تعاليم الإسلام
(بمناسبة بدء العام الدراسي).
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، أحمده سبحانه وأشكره، رفع منار العلم، وأشاد بالعلماء والمتعلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المربين، وقدوة العلماء والسالكين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الهداة المتقين، ومن سار على هديهم، وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فإنها السبيل إلى السعادة في الدنيا، والفلاح والنجاة في الأخرى، بها تُنال الرغائب والعلوم، ويتحقق للمرء كل مطلوب ومأمول (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم)[البقرة:282].
عباد الله: لقد عُني دينُ الإسلام بالتعليم، وأولاه رعاية عظمى، وعناية كبرى، فحثَّ على طلب العلم وإعمال العقل، والبحث والتفكير في كل ميدان من ميادين المعرفة النافعة، وكل مجال من مجالات الحياة المفيدة، لأن العلم قوام الحياة، وأساس النهضات، وعماد الحضارات، ووسيلة الرقي والتقدم للأفراد والجماعات، فلا غرو أن يُعنى الإسلام بالعلم ويدعو إليه في كل شأن من شؤون الدين، وكل أمر من أمور الحياة، فلقد كانت المعجزة الخالدة لرسول الهدى e كتاباً يتلألأ بالعلم الصحيح، والمعرفة الحقة، شاملاً لكل ما يحتاج إليه البشر، وافياً بحاجات بني الإنسان، وهادياً للتي هي أقوم وأصلح في كل شأن من شؤون الدين والحياة (إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)[الإسراء:9].
ولقد بلغ من عناية الإسلام بالعلم أنَّ أول آية نزلت من كتاب الله الكريم كانت في الدعوة إلى العلم، والتنويه بقيمة القراءة والقلم، لأنها سُلَّمُ المعرفة، ووسيلةُ العلم، فقال سبحانه: (إقرأ باسم ربك الذي خلق،خلق الإنسان من علق،إقرأ وربك الأكرم،الذي علم بالقلم،علم الإنسان ما لم يعلم)[العلق:1-5]، كما أقسم الله تعالى بالقلم لما له من عظيم الأثر في محو الأمية، ورفع مستوى العلم والثقافة، فقال عز شأنه: ( ن ، والقلم وما يسطرون)[القلم:1]، وقد كرم الله عز وجل الإنسان، وميزه على سائر الحيوان بالعلم والمعرفة، وبقدر ما يحمل المرء من العلم يكون فضله، ويعظم قدره، فالعلم هو الذي يسمو بالإنسان، ويعلي شأنه، ويرفع مكانته، وما عزَّت أمة من الأمم إلا بالعلم والمعرفة، ولذا تسعى الأمم الناهضة جاهدة في نشر العلوم والمعارف، وفتح أبواب التعليم، والعناية بالتربية والتوجيه منذ مراحل التعليم الأولى كي تحقق ما تصبوا إليه من سعادة أبنائها، ورقي شعوبها، وعزِّ بلادها، وتضع مناهج التعليم، وأصول التربية والتوجيه على قواعد وأسس، تحقق لها المقاصد التي تتطلع إليها، والغايات التي تنشدها، والأهداف التي تؤملها.
غير أن ما يجب على أمة الإسلام أن تُعنى به العناية العظمى، وأن توليه الاهتمام الأكبر في هذا السبيل: أن تؤسس مناهج التعليم، وبرامج التربية والتوجيه، وفق أصول الدين، وتعاليم الشرع المبين، وأن يُعنى المصلحون من رجال التربية ومسؤولي التعليم في بلاد الإسلام برسم خطط التعليم ومناهجه على اختلاف التخصصات العلمية، وشتى فروع المعرفة، على هدي من تعاليم الإسلام النقية من الشوائب، والسليمة من الدواخل، كي تظل أمةُ الإسلام محافظة على كيانها، مستمسكة بدينها، فيتربَّى أبناء الإسلام، وتُنَشَّأ ناشئتُهُم في ظلال تعاليم الإسلام المباركة، حتى يكونوا ورثةً صالحين للإسلام، وأمناء قادرين على تبليغ رسالته ونشر تعاليمه، والذود عن حياضه، غير متأثرين بالأفكار الدخيلة، والمبادئ المنحرفة، والاتجاهات المضللة، التي طالما عصفت بكثير من أبناء المسلمين، حتى أضلتهم عن سواء السبيل.
ولقد كان من أكبر عوامل ذلك وأسبابه: ضعف التعليم الديني، والتوجيهِ الإسلامي، في كثير من مراحل التعليم في بعض بلاد الإسلام، وانسياقُها وراء التقليد لمناهج تعليمية، ومبادئ تربوية مناهضة لهدي القرآن وتعاليم الإسلام، حتى نشأ من بني الإسلام أجيالٌ كثيرة جهلت أصول الدين وحقيقة الإسلام.
وإن الواجب الإسلامي ليحتم على رجال التربية والتعليم في بلاد الإسلام أن يُعنوا باستصلاح مناهج التربية والتعليم، حتى تكون موافقة لهدي القرآن، ومستوحاة من شريعة الإسلام، وأن يغرسوا في نفوس الناشئة منذ مراحل التعليم الأولى أصول الدين، وقواعد الإسلام، وأن يربوهم على التخلق بأخلاقه المثلى، والتحلي بآدابه العليا، فإن التعليم ليس مجرد علوم ومعارف تشحن بها الأذهان، وإنما هو تربية صالحة على مبادئ الدين الحنيف، وتنشئة على مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، إلى جانب علوم ومعارف دينية ودنيوية، تحقق الخير والنفع للعباد والبلاد في شتى مناحي الحياة، فإنه لا خير في تربية لا تثمر عملاً صالحاً، ولا جدوى من علم لم يُكْس بخلق كريم، وأدب رفيع، ولا فائدة من علوم تشكك في الصحيح من المعتقدات الدينية الراسخة.
عباد الله: إنه لن يتحقق لأمة الإسلام المقاصد المنشودة، والأهداف المأمولة من التربية والتعليم، مهما كانت عليه مناهجها الدراسية، وبرامجها التعليمية من خير عظيم، وما تشتمل عليه من نفع كبير، إلا في ظل معلمين ومعلمات مخلصين ناصحين، يستشعرون عظم المسؤلية، فيسعون جاهدين في سبيل حمل هذه الرسالة، والقيام بأداء الأمانة بكل صدق وإخلاص، وجِدٍّ ونشاط، يُعنون بإيضاح المادة العلمية للدارسين، ويتحلون بالصبر على التعليم والتفهيم، ويشجعون النابهين والمتميزين، ويتحرون العدل والمساواة بين المتعلمين، مع اتصاف بالصلاح والتقوى، واستقامة على نهج الهدى ظاهراً وباطناً، وتحَلٍّ بمكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، ورفق ولين، وحسن سمت ووقار، وتواضع وخفض جناح للمتعلمين.
وإنه ليتأكد الاتصاف بذلك في حقِّ معلمي العلوم الشرعية، وأساتذة التربية الإسلامية، لأنهم حملة الرسالة الإلهية، والمبلغون للشريعة المحمدية، فحريٌّ بهم أن يكونوا خير قدوة للأجيال الناشئة، فإن للمعلم الأثرَ الأكبر في نفوس المتعلمين، والتأثر بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ولا سيما في مراحل التعليم الأولى، فليتذكر المعلمون والمعلمات عظم الأمانة، وأهمية المسؤولية، وليؤدوها على الوجه الأكمل، نصحاً للأمة، وإبراء للذمة، وأملاً في إحراز فضل نشر العلم ونفع الخلق، فقد قال عليه الصلاة والسلام في بيان فضل ذلك وعظيم جزائه: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير). رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح.
وإن على المتعلمين والدارسين أن يلتزموا بتعاليم الدين الحنيف، ويتأدبوا بآداب الشرع القويم، وأن يقبلوا على الدراسة والتحصيل منذ بدء العام الدراسي بهمم عالية، ونفوس سامية، تحمل على الجد والاجتهاد، وتتوق للمزيد من العلم والمعرفة أملا في تحقيق غدٍ مشرق، ومستقبل زاهر يعود بالخير لأنفسهم، والنفع لأمتهم، وأن يقدروا ما يُبذل في سبيل تعليمهم، وما يهيئ لهم من إمكانات وقدرات بشرية ومادية كبرى، ولا سيما في هذه البلاد المباركة التي رعت العلم رعاية جُلَّى، وبنته على أسس من أصول الدين وعقائده الصحيحة وتشريعاته السامية.
وإن مما يُلْفَتُ إليه أنظارُ المتعلمين الاعتناءَ بتوقير المعلمين، وإجلالهم، والتأدب معهم، لما لهم من فضل التعليم والتوجيه، فقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والحلم، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ليتواضع لكم من تُعَلِّمونه).
فاتقوا الله عباد الله، واتقوا الله يا رجال التربية والتعليم في الأخذ بالناشئة إلى أنواع العلوم والمعارف، التي تقود إلى سبيل الخير والفلاح، وطريق السداد والصلاح، وليكن هدفكم من العلم والتعليم: التمسكَ بأهداب الدين القويم، وتحقيقَ النفع للعباد، ورفعَ منار البلاد، وإعلاءَ شأن أمة الإسلام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( يرفعِ اللهُ الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير)[المجادلة:11].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، نبيه المصطفى، وخليله المجتبى، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء، والسادة الحنفاء، ومن سار على هديهم واقتفى.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن الأجيال الناشئة هم ثروة الأمة الحقيقية، وأملها المشرق بإذن الله، فمتى وُجِّهوا نحو التعاليم النافعة، وحُصِّنوا بالعقيدة الإسلامية الصحيحة، ورُبُّوا على التربية الدينية القويمة، ونُشِّؤوا على الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم والمعارف، فلسوف تتحقق لهم وللبلاد ما يُؤَمَّل من تقدم ورقي، وما يُتَطلع إليه من رفعة وسيادة، غير أن ذلك لا يتم إلا في ظل تربية أسرية صالحة، توافق مناهج التربية، وأصول التعليم الصحيحة، وأن يواكب ذلك توجه إعلامي سليم، لا يتنافى مع ما يتلقاه المتعلمون من التربية والعلوم.
أما حين تختل هذه الموازين، وتتباين اتجاهاتها، ويحصل الإخلال بهذه المسؤوليات من قبل من وُكِل إليهم رعايتها والحفاظ عليها، فلن يتحقق ما يؤمل من ثمار العلم وأهدافه، بل ويكون لذلك نتائج سلبية عظمى على العباد والبلاد.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واتقوا الله تعالى يا رجال التربية والتعليم، وأرباب الفكر، ومسؤولي الإعلام في بلاد الإسلام، وتذكروا أنه متى حُفظت معاقلُ العلم، وحصونُ التعليم، ومراكزُ الإعلام والتوجيه في بلاد الإسلام، وأحيطت بسياج الدين المتين، وربطت برباط العقيدة الوثيق، فلسوف يعلو صوت الحق على الباطل، وترتفع راية الإسلام خفاقةً في الآفاق، ويتحقق لأهل الإسلام العز والتمكين، والنصر المبين (ولَيَنْصُرَنِّ اللهُ من ينصره إن الله لقوي عزيز)[الحج:40].
المرفق | الحجم |
---|---|
46التربية والتعليم في ضوء تعاليم الإسلام.docx | 34.91 كيلوبايت |