قيمة الوقت في حياة المسلم

(بمناسبة بدء الإجازة الصيفية).

الحمد لله (الذي جعل الليل والنهار خِلفةً لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكوراً)[الفرقان: 62]، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى، وآلائه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، نبيه المجتبى، وخليله المصطفى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء، والسادة الحنفاء، ومن سار على هديهم واقتفى.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم حق التقوى، فإنها أساس صلاح الأعمال، وعنوان زكاء النفوس، وطهارة القلوب، وهي السبيل إلى السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

عباد الله: من دلائل سعادة المرء، وأمارة توفيقه: أن يُلهم الإنابة إلى الله وطاعته، واغتنامَ الأوقات فيما يدنيه من ربه ومرضاته، فلا تمر عليه ساعةٌ من ساعات الزمن، ولا لحظةٌ من لحظات العمر دون أن يحقق فيها عملاً صالحاً يقرِّبه من ربه، أو يقدِّم عملاً نافعاً لمجتمعه وأمته، يرجو ثوابه، ويؤمِّلُ جزاءه، إدراكاً منه لقيمة الوقت، ومعرفةً لقدره، واعتناءً بشأنه، ذلكم أن الوقت يا عباد الله أولى ما عُني به المرء، وآكد ما يهتم به، لأنه أنفس ما يُملك من الثروات، لا يقدر بحساب ولا ثمن، وهو يمر مر السحاب، ويجري جري الرياح، وما مضى منه لا يعوَّضُ ولا يعود، وما ذهب منه لا يرجع ولا يؤوب، فمن الحزم والرشاد أن يغالي المسلم به مغالاة شديدة، وأن يحرص على اغتنامه بكل نافع ومفيد حرصاً لا حدود له، وأن يكون على حذر من أن يَضيع عليه شيء من الأوقات، دون أن يستغلها بما ينفعه في أمر دين أو دنيا، فإن الوقت عُمر الإنسان، فإذا سمح بضياعه وترك العوادي تنهبه، فقد خاب سعيه، وفسد أملُه، وخسر حياتَه، يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسُه نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي". وقال بعض الحكماء: "من أمضى يوماً من عمره في غير حقٍ قضاه، أو فرضٍ أداه، أو مجدٍ أثَّله، أو حمدٍ حصَّله، أو خير أسَّسَه، أو علمٍ اقتبسَه، فقد عَقَّ يومَه وظلم نفسَه". وقال الإمام الحسن البصري رحمه الله " ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيتُ لا أعود إلى يوم القيامة".

عباد الله: لقد عُني الإسلام بالوقت عنايةً عظمى، واهتمَّ به اهتماماً بالغاً، فقد أقسم الحَقُّ سبحانه وتعالى في مطالع سور متعددة من كتابه الكريم بأجزاء معينة منه، فأقسم بالليل والنهار والفجر والضحى والعصر والصبح، وحينما يقسم الحقُّ عز وجل بشيء من مخلوقاته، فذلك دليلُ العناية والاهتمام، والتنبيه ولفت الأنظار إلى أهمية المقسَم به، وللحثِّ على العناية به، وإدراكِ جليل منافعه، وعظيم آثاره.

وجاءت السنة النبوية تؤكد ما أشار إليه القرآن الكريم من قيمة الوقت في حياة الإنسان، وتقرِّرُ مسئوليته عنه أمام الحق عز وجل يوم القيامة، فروى الترمذي والطبراني واللفظ له عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: ( لا تزولُ قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن عِلْمِه ماذا عمل به).

وقد سار السلف الصالح من هذه الأمة وفق هذا التوجيه الإسلامي الرشيد في العناية بالوقت، والاهتمام به، وضربوا أروع الأمثلة في المحافظة على الأوقات، والاستفادة من كل لحظة من اللحظات، ومن مأثور القول عنهم: "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، وإيماناً منهم بهذا المثل المطابق لتوجيه الإسلام، كان لا يضيع عليهم شيء من أوقاتهم، حتى قال الإمام الحسن البصري في وصف حرصهم على الأوقات: "أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشدَّ منكم حرصاً على دراهمكُم و دنانيركُم".

كان أولئك السلف يحرصون غاية الحرص أن لا تمر عليهم برهة من الزمن وإن قَصُرت دون أن يتزودوا فيها من الخير، إما بعلمٍ نافع، أو عملٍ صالح، أو إسداء نفع للمجتمع، أو عملٍ بنَّاء يفيد الأمة، وكان ثمرةُ ذلك الحرص، ونتيجةُ تلك العناية بالوقت: ما خلَّفوه من علوم نافعة، وأعمالٍ صالحة باقية، وفتوحاتٍ إسلامية واسعة، وحضارةٍ إنسانية زاهيةٍ، راسخةِ الجذور، باسقةِ الفروع، شاهدةٍ لهم بقوة العزائم، وعلو الهمم.

وما ذاك إلا بفضل الإخلاص لله تعالى، والصدق معه، والعنايةِ بالأوقات، والاستفادةِ من أيام العمر، حتى حققوا ذلك النفع العظيم لأنفسهم وأمتهم.

أيها المسلمون: إن من عظيم الأسى أن يغفل كثيرٌ من الناس عن إدراك قيمة الوقت وأهميته في حياتهم، وهو أغلى ما يملكون، وأنفس ما به ينتفعون، فيصرفون كثيراً من الأوقات دون مبالاة، ومن غير اكتراث، فيما لا يعود عليهم بمصلحة أو منفعة في أمر دين أو دنيا، يهدرون أوقاتاً كثيرة في مجالس القيل والقال، والثرثرة واللغو واللهو واللغط، مع ما تشتمل عليه تلك المجالس غالباً من كبائر الإثم، من غيبة ونميمة، وسخرية واستهزاء، وهمز ولمز لعباد الله، وانشغال بما لا يهم ولا يعني من الأمور، وفي الأثر: "إذا سقط العبد من عين الله أشغله بما لا يعنيه". أنسي أولئك أو تناسوا ما يجرُّه ذلك عليهم من وبال، وما يورثه من حسرة وعقاب، وإن في اتساع فراغ هؤلاء وبالاً عليهم، ومضاعفةً لأوزارهم، وضرراً على مجتمعهم، والأسوأُ من ذلك أن يصرف البعض أوقاتهم فيما يعود عليهم بالضرر المحض في الدين والدنيا، في مظاهر مختلفة، وصورٍ متنوعة من ضياع الأوقات بين الناس، لا سيما في صفوف الشباب، في ضروب من الغفلة واللهو واللعب بالباطل من قمار ونحوه، مما يصُدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن مطالعات مختلفة، ومشاهدات متنوعة، تجلب سخط الجبار جل وعلا، ولا يرتضيها ذو دين متين، أو عقل رشيد، أو فطرة سليمة، حيث يمضون الأوقات الكثيرة، ويقضون الساعات المتتالية في ذلك اللهو الباطل، أو تلك المشاهدات المحرمة، التي تورث ضعفاً في الديانة، وفساداً في الذمم، وتحللاً من المروءة والفضيلة، ولو لم يكن في ذلك من المفاسد والأضرار إلا ضياعَ الأوقات هدراً، وذهابَ الزمان سُداً، لكفى به غبناً فاحشاً، فكيف والحال أنها تورث مفاسد عظيمة، وتخلِّف آثاراً سيئة على الفرد والجماعة.

إنَّ على الآباء والأمهات بما حُمِّلوا من مسؤولية العناية بالأبناء، وتربيتهم على أخلاق الإسلام وآدابه، أن يتقوا الله تعالى في فلذات الأكباد، وان يُعنَوا بتوجيههم إلى استغلال الأوقات بما يعود بالخير والصلاح لهم، والنفع لمجتمعهم، وأن يحولوا بينهم وبين ما حرم الله عليهم، مما يكون سبباً في ضعف الدين وفساد الأخلاق.

وإن المسؤولية الكبرى لتقع على عاتق مسؤولي الإعلام في بلاد الإسلام، فليتقوا الله تعالى فيما يقدمون لأمة الإسلام عبر وسائل الإعلام المختلفة، وليحفظوا لها وللأجيال الناشئة الأوقاتَ فيما يعود بالخير والفائدة، وما ينفع في العاجل والآجل، وأن لا يقدِّموا للأمة إلا ما يتفق مع تعاليم الدين القويم، ومما لا يتنافى مع آداب الإسلام المثلى، وأخلاقه العليا، من علوم دينية، ومعارف دنيوية هادفة بناءة، تفيد الفرد وتنفع الأمة.

عباد الله: ومن مظاهر ضياع الأوقات في واقع الناس أن يستغل البعض أوقات الفراغ لا سيما الإجازة الصيفية في السفر إلى بعض البلاد الكافرة، وارتياد الأماكن المشبوهة فيها، والانسياق وراء تقاليد تلك المجتمعات وعاداتهم، في التحلل من الفضيلة والمروءة ومكارم الأخلاق، رغم ما في السفر في حدِّ ذاته إلى تلك البلاد من غير حاجة ماسة من محذور شرعي، ولذا فكم حصل من جرَّاء سفر البعض إلى تلك البلاد الكافرة من أضرار عظمى، ومفاسد كبرى، على بلاد الإسلام وأهل الإسلام.

ألا فاتقوا الله عباد الله، ولتحفظوا أوقاتكم فيما يرضي ربكم جل وعلا، ولتغتنموا أيام العمر بجلائل الأعمال، ولتصرفوا الزمن في أفعال الخير، وشريف الخصال، وليكن شعاركم على الدوام ما روي عن رسول الهدى e من توجيه عظيم، ونصحٍ بليغ بقوله: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابَك قبل هرمك، وصحتَك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتَك قبل موتك). رواه النسائي وغيره.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين،قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادِّين،قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون  ،أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)[المؤمنون:112-115].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، ولتستعملوا أوقاتكم، ولتصرفوا أيام حياتكم فيما يُرضي الحق، وينفع الخلق، فإن المرء إذا لم ينتفع بوقته خير انتفاع، ولم يعط لكل وقتٍ حقَّه، ولكل حقٍّ وقتَه، ولم يكن في كل يوم في تقدم مستمر بفضل عنايته بالوقت، فإنه يصبح في تأخر مطَّرِد، يهوي به إلى الهاوية، فإن الإنسان في هذه الحياة سائر لا واقف، وما أيام العمر إلا مراحل تُطوى طَيّاً، فمسرع ومبطئ، ومتقدم ومتأخر، وإنما يختلف الناس في جهة المسير، فمن لم يتقدم إلى الجنة بالأعمال الصالحة، تأخر إلى النار بالأعمال السيئة، إذ لا منزل للإنسان في نهاية المطاف سواهما، ولا طريق يؤدي إلى غيرهما (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)[المدثر:37]. فالسعيد من اغتنم أيام العمر فيما يوصله إلى طريق الحق، ويهديه إلى سبيل الفلاح والنجاة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تُنصرون،واتَّبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيَكم العذاب بغتةً وأنتم لا تشعرون،أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرَّطت في جنب الله وإن كنتُ لمن السَّاخرين،أو تقول لو أن الله هداني لكنتُ من المتقين)[الزمر: 54-57].

 

المرفقالحجم
ملف 47قيمة الوقت في حياة المسلم.docx34.76 كيلوبايت
(بمناسبة بدء الإجازة الصيفية).

الحمد لله (الذي جعل الليل والنهار خِلفةً لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكوراً)[الفرقان: 62]، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى، وآلائه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، نبيه المجتبى، وخليله المصطفى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء، والسادة الحنفاء، ومن سار على هديهم واقتفى." data-share-imageurl="">