في ختام شهر رمضان
(ألقيت في: 25-9-1418هـ).
الحمد لله مثيب الطائعين، ومجزل العطاء للشاكرين أحمده سبحانه وأشكره على فضله العميم، وأشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، وسيد العابدين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعـد:
فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها وصيته تعالى لعباده الأولين والآخرين، فاتقوا الله تعالى حق تقاته، واشكروه سبحانه أن هداكم للإيمان، ومنَّ عليكم بهذا الشهر العظيم الذي فضله وشرفه، وجعله أعظم الشهور قدراً، وأعلاها شرفاً، واختصه بخصائص كبرى، وفضائل عظمى.
إنه شهر كريم، وموسم من مواسم الخيرات عظيم، شهر أعز الله تعالى فيه الإسلام، وأعلا شأن المسلمين، وحقق فيه لأمة الإسلام أعظم الانتصارات على الأعداء، في مواقع جهادية كثيرة عبر عصور الإسلام المختلفة، حتى صارت دولة الإسلام في قرون متطاولة خلت ذات قوةٍ لا تبارى، وسيادةٍ لا تدانى، وكان جانبها بين الأمم مرهوباً، وحقها بين الدول محفوظاً، ولكن حينما ضعف تمسك المسلمين بتعاليم الدين القويم في أعقاب الزمن، وتفرقوا شيعاً وأحزاباً، أصبحت النكبة على أهل الإسلام نكبة عظمى، حيث تكالب عليهم الأعداء من كل جانب، وسيطروا على معظم مصالحهم، وسيَّروا جُلَّ أمورهم السياسية والاقتصادية، واستطاعوا الاستيلاء على كثير من ثرواتهم، والاحتلال لبعض بلادهم، وفي مقدمتها الأرض المباركة فلسطين، ومسجدها الأقصى المبارك، أولى القبلتين، وثالث المسجدين الشريفين، عجَّل الله تعالى بتحريره، وأقر أعين المؤمنين بعودة تلك البلاد المباركة إلى رحاب المسلمين.
عباد الله: إن أعداء الإسلام كانوا ولم يزالوا يتربصون بالمسلمين الدوائر، ويكيدون لهم المكائد، ولا يألون جهداً في الوقيعة بالمسلمين، وزرع العداء والبغضاء في صفوفهم، وإذكاء الفتن بينهم، حتى نشأت في بعض بلاد الإسلام فتنٌ عظمى، طال أمدها، واستشرى ضررها، حتى انعدم الأمن والاطمئنان، وساد الرعب والخوف في تلك البلاد، جراء ما يُرتكب فيها من أبشع الجرائم، وأفظع الحوادث، في سلسلة من الفجائع المتكررة بين الحين والآخر حتى في هذه الأيام المباركة، من سفكٍ للدماء، وإزهاقٍ لأرواح العشرات من الأبرياء في كل فاجعة من تلك الفجائع، حتى لم يسلم من ذلك الشيوخ والأطفال والنساء، في مآسي محزنة، وأحداث مؤلمة، تتفطر لهولها القلوب أسى وحزناً. كل ذلك يقع ويتكرر على مرأى ومسمع من العالم، دون أن تكون هناك جهود مؤثرة من أمة الإسلام لإيقاف تلك المجازر، أو وضع حد لتلك المآسي.
وإن الجموع المؤمنة في هذه الرحاب المقدسة في هذا اليوم المبارك وهذا الشهر الفضيل ليناشدون الإخوة في الجزائر أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وفي أمتهم، وأن ينبذوا العنف فيما بينهم، وأن يحقنوا الدماء، وأن يعملوا على رأب الصدع، وجمع الكلمة، وأن يحتكموا لصوت الحق والشرع، حقق الله تعالى ذلك عن قريب، ورفع البأساء والضراء عن تلك البلاد، وجمع القلوب فيها وفي سائر بلاد الإسلام على الإيمان والتقوى إنه سميع مجيب.
عباد الله: وفي بلاد إسلامية أخرى طالما كانت معقلاً من معاقل الإسلام، وحصناً من حصونه المنيعة، حاملةً لواءَ الإسلام رَدْحاً من الزمان، غير أن نور الإسلام قد خَفَت فيها منذ أمد، وهاهي الآن تزداد إدباراً عن الحق، وتعلنُ التنكر لدين الإسلام، وترفع ألوية الباطل، وتعلى رايات الضلالة، ويُحارَبُ فيها الإسلام، ويُعمل على تنحيته عن حياة الناس، متناسين أولئك أمجادهم الإسلامية الخالدة، ومتجاوزين بذلك الأعراف الدولية، وميممين وجهتَهم نحو خصوم الإسلام وأعدائه بالموالاة والمناصرة، في تحدٍّ سافر لحق الشعب المسلم في تلك البلاد، ولمشاعر المسلمين في أنحاء المعمورة.
فهذه يا عباد الله بعض مآسي أمة الإسلام، وأحوالها المؤلمة، حريةٌ بأن تبعث الشعور بحق الأخوة الإسلامية في نفوس أهل الإيمان من ذوي التأثير في الأمة، لاسيما وهم يتفيؤن ظلال هذا الشهر الكريم، فيدفعهم ذلك إلى العمل الجاد على جمع كلمة المسلمين، والتأليفِ بين قلوب المؤمنين، والدفاعِ عن قضاياهم، ورفع لواء الإسلام، ونصرة هذا الدين القويم (ولَينصُرَنَّ اللهُ من ينصُرُه إنَّ الله لقوي عزيز)[الحج:40].
أيها المسلمون: ها أنتم تنعمون أواخر هذا الشهر الكريم، والموسم العظيم، بأجواء إيمانية، ونفحات ربانية، تحمل على مضاعفة العمل الصالح فيما تبقى من هذا الشهر من أيام وليال مباركة، لها مزيد فضل على غيرها، حيث يرجى فيها ليلة القدر التي شرفها الحق، وأعلا شأنها، فهي الليلة المباركة التي أُنزل فيها القرآن الكريم، وفيها يفرق كل أمر حكيم، والعبادة فيها تفضل عبادةَ ألف شهر خلت من ليلة القدر، فهي حرية بالتعظيم منكم والتبجيل، وجديرة بأن تُحيا بأنواع العبادة للغفور الرحيم، والتذلل إليه، والتضرع والانكسار بين يديه، أملاً في مغفرة الذنوب والآثام، والعتق من النار، والفوزِ بفضل هذه الليلة المباركة، وإحراز ثوابها العظيم، الذي أشار إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). رواه البخاري ومسلم، وروى الإمام أحمد والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت إن وافقت ليلةَ القدر ما أقول فيها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).
وإن من فضائل ما تبقى من هذا الشهر، ومما اختص الله به هذه الأمة ما روي في الحديث عند الإمام أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسَ خصال لم تعط أمة قبلهم، وذكر صلى الله عليه وسلم منها أن الله يغفر لهم في آخر ليلة فيه، قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكنَّ العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عملَه).
فلتغتنموا عباد الله ما تبقى من أيام هذا الشهر ولياليه، ولاسيما وأنتم في هذا البلد الحرام الذي فضله الحق وعظمه، وجعل للعبادة فيه مزية وفضيلة على ما سواه، فمن كان محسناً فيما مضى، فليزدد لله تعالى طاعة وبراً، ومن فرط فيما مضى، فليتدارك ما بقي، وليختم بالحسنى، فإن الأعمال بالخواتيم، فلتضاعفوا عباد الله العمل الصالح في هذه الأيام، ولتستقيموا على طاعة ربكم ومرضاته في كل وقت وحين، ولتستديموا المسلك الرشيد، والمنهج السديد الذي سلكتموه في هذا الشهر الفضيل، فإنه ليس للعبادة وقت تنتهي بانتهائه، أو زمن تنقضي بانقضائه، بل هي حق لله تعالى على العباد، يعمرون بها أيام العمر، وساعات الزمان حتى يلقوا ربهم تعالى عملاً بقوله سبحانه: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)[الحجر:99]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمونوسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين)[آل عمران:132-133].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدى سيد المرسلين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحـانه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثرهم وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقاته، واشكروه تعالى على عظيم نعمه، وجليل آلائه.
ألا وإن من شكره سبحانه على نعمة إكمال عدة الصيام، إخراجَ زكاة الفطر التي شرعها الإسلام طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، وإغناءً لهم عن ذُلِّ الحاجة والسؤال في يوم العيد.
وقد فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصغير والكبير، والذكر والأنثى من المسلمين، وكان الناس في عهده صلى الله عليه وسلم يخرجونها صاعاً من طعام، أو تمر، أو شعير، أو أقط، أو زبيب، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
فلتخرجوها رحمكم الله من هذه الأنواع أو غيرها مما يَطْعمُ الناس ويقتاتون، فكل ما كان المُخرَج أنفعَ للفقير، فهو أعظم فضلاً، وأكثر ثواباً (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم)[آل عمران:92].
وتجب زكاة الفطر يا عباد الله بغروب شمس ليلة العيد، والأفضل أن تُخرج يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، لفعل الصحابة رضي الله عنهم، وقد جاء في الحديث أن: (من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم. ويجوز أن يُعطى الجماعةُ من أهل الزكاة ما وجب على الواحد، وأن يعطى الواحدُ ما وجب على الجماعة.
فاتقوا الله عباد الله، ولتؤدوا زكاة فطركم بصدورٍ منشرحةٍ، ونفوسٍ بالخير مغتبِطةٍ، ولتكثروا من شكر الله تعالى وذكره بالتكبير والتحميد والتهليل من غروب شمس ليلة العيـد إلى أداء الصلاة، فإن ذلك مما شرعه الحق تعالى وندب إليه، كما قال سبحانه: (ولِتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)[البقرة:185].
المرفق | الحجم |
---|---|
52في ختام شهر رمضان.docx | 33.9 كيلوبايت |