خطبة آخر العام

 

 

الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يَذَّكَّر أو أراد شكوراً، أحمده سبحانه وأشكره على ما أنعم وأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أفضل الخلق طراً، وأزكاهم طاعةً وبراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء، والسادة الحنفاء، ومن سلك سبيلهم واقتفى، وسلَّم تسليماً كثيراً.

     أما بعد: فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وتذكروا عباد الله: أن مرور الليالي والأيام، وتصرم الشهور والأعوام، مؤذن بانقضاء الآجال، وتغير الأحوال، وقرب الرحيل من هذه الدار إلى دار القرار.

وها أنتم ياعباد الله تودِّعون عاماً مضى وانقضى، وذهبت أيامه ولياليه، وطويت صحائفه وأعماله، بما استُودع فيها من خير وشر، ولا مطمع لأحد في تلافي ما مضى، ولا تدارك ما فات وانتهى، وإنما المؤمَّل في تدارك مستقبَل الأيام، والبدار بالتوبة والإنابة للملك العلام.

وإنكم يا عباد الله تودعون عاماً مضى لا يُدرى ما الله صانع فيه، وتستقبلون عاماً جديداً لا يدرى ما الله قاضٍ فيه، ولا يدري أحدنا هل يستكمله، أم يخترمه الأجل قبل تمامه، فالآجال مغيَّبة، والموت يأتي بغتة، والموفق من استعدَّ للموت قبل نزوله، وتأهب للأجل قبل حلوله.

وإن أعظم معين على ذلك تذكُّر الموت على الدوام، كما أرشد إلى ذلك رسول الله e حيث قال: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات - يعني الموت- فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسَّعه، ولا في سعة إلا ضيقها)، فمَن ذكر الموت حَقَّ ذكرِه، حمله على محاسبة النفس، والأخذِ بها في دروب الصلاح والتقى، ومجانبة الشهوات والهوى، يقول بعض الصالحين: "من أكثر ذكر الموت أُكرم بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاث: تسويفِ التوبة، وتركِ الرضا بالكفاف، والتكاسلِ في العبادة".

عباد الله: إن الموفَّقين من أهل اليقظة والبصيرة، قد أدركوا حقيقة هذه الحياة، فلم يرفعوا بها رأساً، وإنما خَلَّفوها وراءهم ظِهرياً، حملهم ذكر الموت على الدوام على أن يجتهدوا في سلوك سبيل النجاة، وأخذوا أنفُسَهم بملازمة الطاعة والعبادة، واجتنابِ المعصية والضلالة، ولم يغتروا بزينة هذه الحياة، فلم يفرحوا في أيامها، ولم يأنسوا بلياليها إلا بالعبادة والطاعة، ولذيذِ المناجاة والإنابة، يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله: "إن الموت قد فضح الدنيا، فلم يدع لذي لب بها فرحاً"، وقال مطرف بن عبد الله رحمه الله: "إن الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمِسوا نعيماً لا موت فيه، لقد أمن أهل الجنة الموت، فطاب لهم عيشهم، وأمنوا الأسقام، فهنيئاً لهم طول مقامهم، فليُستعد للموت قبل نزوله، وليؤخذ له أهبته قبل حلوله، وليُتزود لما بعده من الشدائد والأهوال، فقد وقف رسول الله e على شفير قبر، فبكي حتى بلَّ الثرى، ثم قال: "يا إخواني لمثل هذا فأعدوا ".

وإنه ما من ميت يموت إلا ويندم، ففي الحديث: (ما من أحد يموت إلا ندم، قالوا: وما ندامته يارسول الله؟ قال: إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نزع). رواه الترمذي وغيره.

     وقال قتادة رحمة الله: "والله ما تمنى المفرط أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة، ولا أن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع ليعمل بطاعة الله ".

     أيها المسلمون: كل زمان في هذه الدنيا إلى زوال وانتهاء، وكل حيٍ فيها صائر للفناء، وكل شئ ما خلا الله باطل، وكل نعيم بعده الموتُ زائل ( كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )[الرحمن:26-27]. كم لاهٍ والموت يطلبه، وساهٍ قد دنى أجله، وكم غافل يرفل في ثياب الصحة، ويتمتع بنعمة العافية، فرحاً بقوته وشبابه، وغناه وقدرته، لا يخطر له الضعف ببال، ولا الموت في حال من الأحوال، أصابه مرض أجهده، فضعف بعد قوة، واستكان بعد عزة، وحَلَّ الهَمُّ من نفسه محل الفرح، والكدرُ مكان الصفاء، والحزنُ محل السرور، ولم يعد يأنس بصديق وجليس، ولا يُسَرُّ بمحدث وأنيس، قد سئم ما كان يرغبه في صحته، وصار لا يشتهي الغذاء، ويكره تناول الدواء، يفكر في عمرٍ أفناه، وشبابٍ أضاعه وأبلاه، ويتذكر أموالاً جمعها، وقصوراً شيدها، يتألم لدنيا يفارقها، وذريةٍ ضعاف يُخَلَّفُها، يخشى عليها الضياع من بعده، مع اشتغال نفسه بمرضه وآلامه، وتعلق قلبه بما يُعجِّل شفاءه، ولكن ما الحيلة إذا استفحل الداء، ولم يفد الدواء، وتغير الطبع والمزاج، وتحير الأطباء في العلاج، عندئذ يستشعر الندم على ما مضى، ولات ساعة مندم، ويحس بعواقب التفريط والإهمال.

وكم هنالك ممن زلت به القدم، دون سابق مرض أو ألم، بل هجمت عليه المنية، وسلبه الموت في لحظات، دون إمهال أو انتظار، وترك هذه الدار مخلِّفاً وراءه آمالاً عريضة، وأموالاً عظيمة ( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد، ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد، لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد )[ق:19-22].

وكم نشاهد يا عباد الله كثرة الراحلين عنا، وكم نشيع بين الحين والآخر بعض الأقربين منا، نُبؤهم أجداثهم، ونأكل تراثهم، وكأنهم سفر عما قليل إلينا راجعون، حلَّ بهم ريب المنون، و( جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يُمَتَّعون )[الشعراء: 206-207].

     ألا نعتبر بما آلوا إليه!، فإنا إلى ماصاروا إليه صائرون، وعما قريب إليهم راحلون: ( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون )[الجمعة: 8].

     خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فوعظ الناس موعظة بليغة، قال فيها: " أوصيكم بذكر الموت، وإقلال الغفلة عنه، وكيف غَفْلتكم عما ليس يُغفِلكم!، وطمعكم فيما ليس يهملكم!، فكفى واعظاً بموتى عاينتموهم، حُملوا إلى قبورهم غير راكبين، وأُنزلوا فيها غير نازلين، وأُودعوا حفراً غير راغبين، أنِسُوا بالدنيا فغرَّتهم، ووثقوا بها فصرعتهم، فسابِقوا رحمكم الله إلى منازلكم التي أُمرتم أن تعمروها، والتي رغبتم فيها ودُعيتم إليها، واستتموا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته، وبادروا الموت في غمراته، وامهدوا له قبل حلوله، وأعدوا له قبل نزوله، فإن الدنيا ماضية بكم على سَنَن، وأنتم والساعة في قَرَن، وكأنها قد جاءت أشراطها، وأشرقت بزلازلها، ووقفت بكم على صراطها، وانصرفت الدنيا بأهلها، وأخرجتهم من حضنها، فكانت كيوم مضى، أو شهر انقضى، وصار جديدُها رثَّـاً، وسمينها غَثَّاً، في موقف ضنْك المقام، وأمور مشتبهة عظام، ونار شديدٍ كَلَبُها، عالٍ لَجَبُها، ساطعٍ لهبها، متغيظٍ زفيرها، متأجج سعيرها، مظلمة أقطارها، فظيعة أمورها، فارعوا عباد الله ما برعايته يفوز فائزكم، وبإضاعته يخسر مبطلكم، وبادروا آجالكم بأعمالكم، فإنكم مرتهنون بما أسلفتم، ومدينون بما قدمتم، وكأن قد نزل بكم المخوف، فلا رجعة تنالون، ولاعثرة تُقالون ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذكر من ربهم مُحْدَثٍ إلا استمعوه وهم يلعبون )[الأنبياء:1-2].

     فاتقوا الله عباد الله، واستدركوا مافات من أعماركم، واغتنموا بقية حياتكم، واختموا بالصالحات أعمالكم، واقبلوا على ربكم واطيعوه، واستقيموا على دينه واستغفروه، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، فاستعدوا ليوم الحساب، وتهيئوا ليوم العرض الأكبر على الله ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية، فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه، إني ظننت أني ملاق حسابيه، فهو في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية، كلوا وأشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية، وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابيه، ياليتها كانت القاضية، ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه )[الحاقة:18-29].

     نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

أول الخطبة الثانية

     الحمد لله الباقي على الدوام، ومصرِّف الليالي والأيام، أحمده سبحانه وأشكره على ترادف الآلاء والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد.

     أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم، وتوبوا إليه وبادروا بصالح الأعمال، ما دمتم في زمن الإمهال، ولا تكونوا ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، ولتكثروا زيارة القبور، فإنها تذكر الآخرة، ولتعتبروا بمن أودع فيها ممن كانوا بالأمس معنا، فأضحوا رهائن تحت التراب، وانقطعوا عن الأهل والأحباب، وليتأمل الزائر حال من مضى من الأقران، أكثَروا الآمال، وجمعوا الأموال، فانقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، محا التراب محاسن وجوههم، وتفرقت في القبور أشلاؤهم، وترملت نساؤهم، وقُسمت أموالهم، وسُكنت مساكنهم ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم )[الأنعام:9].

ألا فاتقوا الله – رحمكم الله – ولتعتبروا بمصير من سبقكم إلى الدار الآخرة، ولتستقبلوا عامكم الجديد بنوايا صالحة، وعزائم صادقة، على فتح صفحة جديدة، بيضاء نقية، ملؤها التوبة والإنابة لله، والإقبالُ على طاعته، وسلوك سبيل الصالحين، والسير على هدى المتقين، والعمل على نصرة دين الله، وإعلاء شأنه على قدر الجهد والطاقة، فإن أمة الإسلام اليوم تعاني أوضاعاً مؤلمة، وأحوالاً مؤسفة، جراء ما حلَّ بها من مصائب ورزايا، ومحن وبلايا.

وإن من أسوأ ذلك ما حلَّ بإخواننا في إقليم كوسوفا من فجائع عظمى، ومصائب كبرى، من سفك الدماء، وانتهاك للأعراض، وسلب للأموال، وتشريد عن الأوطان، في سلسلة من الاعتداءات المتتالية، يشنها الصرب الحاقدون، مما هو امتدادا لما ارتكبوه في بلاد البوسنة والهرسك من أبشع الجرائم، وأفظع الحوادث في التاريخ المعاصر، مما يحتم على أمة الإسلام أن يَهُبُّوا لنصرة إخوانهم أولئك المضطهدين، وأن يكونوا معهم بالنصر والتأييد، ورفع أكف الضراعة للمولى سبحانه أن يكشف عنهم ما حل بهم من البلاء، وأن يزيل عنهم الضراء والبأساء، ولتضاعفوا الدعم والمساعدة لهم، فأغيثوا الملهوفين، وواسوا المكلومين، وسدوا حاجة الفقراء منهم والمعوزين، كي تخففوا بعض آلامهم، وتقللوا من مآسيهم وأحزانهم، فرحم الله امرءًا أعان على ذلك وساهم فيه ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً )[المزمل:20].

وإن ما يحز في نفس كل مسلم غيور يا عباد الله، أن ينتهي عام تلو عام دون أن يُرى بوادر تَقَدُّم وتحسن لأوضاع أمة الإسلام مما تعانيه في كثير من أحوالها في شتى المجالات، وفي مختلف الأقطار، فعسى أن يكون هذا العام الجديد فاتحةَ نصر، وعنوانَ سعد، تشق فيه أمة الإسلام طريق القوة والعزة، وترفع عنها آصار الذل والتبعية، وتستعيد ما استلب من حقوقها، وما احتُّل من بلادها، ويعود لها ما كانت عليه في عهودها الزاهية من قوة لا تبارى، وسيادة لا تدانى، وهيبة لا تجارى، حقق الله تعالى ذلك، وأقر أعين المؤمنين بنصرة هذا الدين وإعلاء شأن المسلمين ( ولَيَنْصُرَنَّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز )[الحج:40]. 

المرفقالحجم
ملف 58خطبة آخر العام.docx36.15 كيلوبايت
 

 

الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يَذَّكَّر أو أراد شكوراً، أحمده سبحانه وأشكره على ما أنعم وأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أفضل الخلق طراً، وأزكاهم طاعةً وبراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء، والسادة الحنفاء، ومن سلك سبيلهم واقتفى، وسلَّم تسليماً كثيراً." data-share-imageurl="">