بِـرُّ الوالـدين

 

 

الحمد لله العليم الخبير، أحمده سبحانه وأشكره، وهو البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الهادي النذير، والسراج المنير، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأكرمين، ومن سار على هديهم وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

وتذكروا عباد الله أن من محاسن دين الإسلام: ما شرعه من البر والإحسان بين أفراد المجتمع، لما له من أثر كبير في حصول المودة، حيث أكد ديننا الحنيف على العمل بذلك، والاتصاف به كمنهج ينهجه المسلم في حياته، وفضائل يربي عليها أبناءه، لما للإحسان من الأثر الأكبر في حصول الوحدة بين أفراد المجتمع، وحلول الوئام والتلاحم بين أبنائه، وإضفاء السعادة والهناء بين جنباته.

وقد أكد الإسلام بادئ ذي بدء على العمل بالبر، والاتصاف بالإحسان بين أفراد الأسرة، إذ هي اللبنة الأولى للمجتمع، فبصلاح أفرادها وتآلف أبنائها يسعد المجتمع بأسره، ويشع في أرجائه الأمن والاطمئنان، والإخاء والسلام.

ولذا أوجب الإسلام القيام بالبر والإحسان إلى الأقارب والأرحام، وجعله من آكد الحقوق وأعظم الواجبات. وآكد هؤلاء حقاً في الإحسان إليهم، والاعتناء ببرهم الوالدان، إذ ليس أعظمُ إحساناً على المرء، ولا أكبر فضلاً عليه بعد المولى عز وجل منهما، ففضلهما على الأولاد جليل، وإحسانهما إليهم كبير، ولذا عظَّم المولى سبحانه حقهما، وقرنه عز وجل بحقه في العبادة وإخلاص الدين له وحده دون سواه، فقال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً)[النساء: 36].

كما أوجب الحق سبحانه شكر الوالدين بعد شكره، إشعاراً بعظيم حقهما، وتأكيداً على جليل فضلهما، فقال سبحانه: ( أنِ اشكر لي ولوالديك إليّ المصير) [لقمان: 14].

قال حبر هذه الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "ثلاث آيات مقرونات بثلاث، لا تقبل واحدة بغير قرينتها، وذكر منها قوله سبحانه: (أن اشكر لي ولوالديك)[لقمان: 14]، فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه" وقد روي عنه e قوله: (رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخط الوالدين).

أيها المؤمنون: إن البرَّ بالوالدين من آكد الحقوق، وأعظم الواجبات، وطاعتَهما من أفضل القرب والطاعات، لما لهما من فضل كبير، وإحسان عظيم.

لقد رعياك أيها الولد في حال الصغر، وتحملا من أجلك الشدائد والآلام، وبذلا ما في وسعهما في سبيل تربيتك وإسعادك، دون أدنى تحفظ أو تردد، حملتك أمك وهناً على وهن، حملتك كرهاً، ووضعتك كرهاً، ولا يزيدها نموك إلا ثقلاً وضعفاً، حتى يبلغ بها الحال أن ترى الموت مما تقاسيه من الآلام والأوجاع، فإذا خرجتَ إلى هذه الدنيا سليماً معافاً، نسيت من أجلك آلامها، وعلَّقت فيك آمالها، ثم شغلتْ نفسها بخدمتك ورعايتك في ليلها ونهارها، طعامك درُّها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها وصدرها، تجوع لتشبع، وتسهر لتنام، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة، أما والدك فهو يكد ويسعى، ويتحمل الأعباء والمشاق من أجل إسعادك، وتهيئة حاجاتك ومتطلباتك، ينفق عليك ويرعاك، ويوجهك إلى ما ينفعك ويرفعك، يُسَرُّ لفرحك، ويتألم لأحزانك، ويدفع عنك صنوف الأذى، ويحميك بإذن الله من الضياع والردى، فهذا شيء من إحسان الوالدين وبرهما، فهل جزاءهما إلا البرُّ والإكرام (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)[الرحمن: 60].

إن حقهما على الأولاد من البنين والبنات الإجلال والتقدير، والطاعة والتوقير، والتواضع لهما، وحسن الأدب معهما، لينٌ في الكلام، وتلطفٌ في الحديث، وخفضٌ للجناح، وتحقيق لرغباتهما، وتلبية لحوائجهما، وطاعتهما في المعروف، ومسارعة لخدمتهما، وكسب لرضاهما في كل وقت، وعلى كل حال، وإن البر بالوالدين ليس بتأمين الحوائج المعيشية، ومتطلبات الحياة المادية فحسب، مع الإعراض عنهما، والانقطاع عن زيارتهما، وعدم صلتهما، بل هو إلى جانب ذلك حنان ووفاء، وتودد وتلطف، ومراعاة للمشاعر والعواطف، وإدخال للسرور على نفوسهما، والأنس إلى قلوبهما، بنفس طيبة، وأخلاق كريمة، من غير سآمة ولا ضجر، ولا تأفف ولا ملل، ودون استكثار لشيء من البر بهما، والإحسان إليهما، فإنه مهما أُسديَ لهما من البر والإكرام، ومُنحا من الرعاية والعناية، فإنه قليل في حقهما، لا يساوي إلا اليسير من فضلهما وإحسانهما، فازدد أيها المؤمن بهما براً وعطفاً، واسألهما التجاوز عن الإساءة والتقصير، والتجأ إلى المولى سبحانه بالدعاء لهما بالرحمة والغفران( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً)[الإسراء: 24]، روي أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "إن لي أماً بلغ منها الكبر، وإنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟ قال: لا، لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وتتمنى فراقها، ولكنك محسن، والله يثيب الكثير على القليل".

وروى البخاري ومسلم واللفظ له عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: (أقبل رجل إلى نبي الله e فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله تعالى، قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما). وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله e أي العمل أحب إلى الله تعالى، قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله). رواه البخاري ومسلم.

عباد الله: إن من المؤلم حقاً أن يفاجأ الوالدان بالعقوق، والتنكرِ للجميل، وجحودِ الفضل والإحسان من فلذات الأكباد، فما أقسى ذلك على نفوسهما، وما أشدَّ مرارته على قلوبهما.

إن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب والمعاصي، إنه عار وشنار على صاحبه، وسببٌ للشقاء والكدر في الدنيا، والعذابِ الأليم في الأخرى.

عجباً لمن يعق والديه حينما احتاجا إليه، ولمن ينصرف عن رعايتهما بعد ما ضعفا والتجئا إليه، أيكون جزاء إحسانِهما الإساءةَ، وبرِّهما العقوقَ والقطيعةَ، وعطفِهما القسوةَ والغلظةَ، أليست الجنة تحت أقدام الوالدين، وأن من برَّ والديه برَّه بنوه، ومن عقَّهما عقَّه بنوه جزاء وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد، جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلا عقوق الوالدين، فإنه يُعجَّل لصاحبه قبل الممات). وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (رغم أنفُ، ثم رغم أنفُ، ثم رغم أنفُ من أدرك أبويه عند الكبر أحدَهما أو كليهما فلم يدخل الجنة).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله e قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرَّجلة -يعني المترجلة من النساء-). رواه النسائي والحاكم وصححه.

فاتقوا الله عباد الله، واجتهدوا في البر بالوالدين، والإحسانِ إليهما، قياماً بالواجب، ووفاءً بالجميل السابق، وأملاً في عفو الله ورحمته.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماًواخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً)[الإسراء:23-24].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، نبيه المصطفى، وحبيبه المجتبى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، وبدور الدجى، ومن سار على هديهم واقتفى.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى لعلكم تفلحون، واستجيبوا لأمر الله ورسوله في الوصية بالوالدين إحساناً، والبرِّ بهما أحياءً وأمواتاً، وإن من البر أن يتعاهد الرجل أصدقاء والديه، ويحسنَ كرامتهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن من أبرِّ البر صلةَ الرجل أهلَ ودِّ أبيه) رواه مسلم في صحيحه، وروى أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: (بينا نحن جلوس عند رسول الله e إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبَوَيَّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاةُ عليهما -يعني الدعاء لهما- والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدهما من بعدهما، وصلةُ الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرامُ صديقهما).

فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على البر بالوالدين، والإحسانِ إليهما، وفاءً لفضلهما، وعرفاناً بجميل صنعهما، وطلباً لرضوانٍ من الله ورحمة.

المرفقالحجم
ملف 10بِـرُّ الوالـدين.docx33.99 كيلوبايت
 

 

الحمد لله العليم الخبير، أحمده سبحانه وأشكره، وهو البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الهادي النذير، والسراج المنير، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأكرمين، ومن سار على هديهم وسلك سبيلهم إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">