فضل يوم عرفة

 

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها وصيته تعالى لعباده الأولين والآخرين، من اتصف بها حقاً وصدقاً، وعمل بمقتضاها طاعةً لله وإخلاصاً، جعل الله تعالى له نوراً يهتدي به في حالك الظلمات، وضاعف له الأجور والدرجات، وغفر له الزلاتِ والخطيئات: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم)[الحديد:28].

عباد الله: لقد هيأ الله عز وجل لعباده مواسم معظمة، وأزمنةً مفضلة، شرفها على سواها من الأزمان والأوقات، بما شرع فيها من أنواع القرب والطاعات، وجلائل الأعمال الصالحات، ليزداد المؤمنون فيها إيماناً ويقيناً، وطاعة لله وبراً.

وإن يومكم هذا من أعلا الأيام عند الله قدراً، وأجلِّها فضلاً، وأعظمِها أجراً، وقد اتفق فيه يومان عظيمان، من أعظم الأيام المباركة عند الله جل وعلا، وهما يوم الجمعة ويوم عرفة، وقد جمعهما الله لكم في هذا اليوم مزيدَ فضلٍ منه تعالى وامتنان، وسابغ عطاء وإنعام.

وإن هذا اليوم ليومٌ مبارك مشهود، تخفق قلوب المسلمين في أنحاء المعمورة، وتهفوا أفئدتهم إلى إدراكه في عرفات، ضمن جموع الحجيج الذين توافدوا من كل فجٍّ عميق، حتى مثلوا في هذه الرحاب الطاهرة، والمواطن المقدسة، ووقفوا في هذا اليوم العظيم في ساحة الغفران في صعيد عرفات، لأداء أعظم ركن من أركان الحج، قد خشعت منهم القلوب، واستكانت النفوس، وذرفت العيون العبرات والدموع، ولهجت الألسن بالتلبية والتوحيد لله رب العالمين، ورفعت أكف الضراعة والمسكنة للغفور الرحيم، رجاء تكفير الذنوب، والعفو عن الآثام، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، فيباهي الله عز وجل حينئذ بحجاج بيته الحرام ملائكتَه المقربين، ويُشهدهم على عموم مغفرته لأولئك الذين وقفوا في هذا المشعر العظيم، وتحقيق ما يأملون من فضله ورحمته التي وسعت كل شيء، كما في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: (إذا كان يوم عرفة فإن الله تبارك وتعالى يباهي بهم الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول له الملائكة: إن فيهم فلاناً مرهَّقاً وفلاناً، قال: يقول الله عز وجل: قد غفرت لهم، ثم قال رسول الله e: (فما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة). رواه ابن خزيمة والبيهقي، وأصله في الصحيح.

أيها المسلمون: في مثل هذا اليوم المبارك من السنة العاشرة من الهجرة أكمل الله تعالى هذا الدين، وأتم به النعمة على سيد المرسلين، وعلى أمته أجمعين، ونزل عليه e وهو واقف في صعيد عرفات في حجة الوداع قول الحق سبحانه: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)[المائدة:3]، وخطب رسول الهدى e في ذلك الموقف العظيم خطبة بليغة، أبان فيها للأمة قواعد هذا الدين وأصول الملة، وأبطل قواعد الشرك ومحا آثار الوثنية، ووضع أحكام الجاهلية، وأكد فيها على تحريم المحرمات التي اتفقت الشرائع السماوية على تحريمها، وهي الدماء والأموال والأعراض، وأبطل كل ما خالف دين الحق، وأوصى الأمة بالنساء خيراً، وذكر الحق الذي لهن وعليهن، وبين للأمة أنه لا عاصم لها من الضلال، ولا حامي لها من أعاصير التفرق والشتات، إلا التمسك بكتاب الله الكريم، والعمل بتشريعاته، وتطبيق أحكامه، فإن ذلك وحده هو الذي يكفل لأمة الإسلام العزة والسعادة، ويحقق لها النصر والسيادة.

ومما جاء في تلك الخطبة العظيمة ما روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله e خطب الناس وهو واقف بعرفة، فقال: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمَيَّ موضوع، ودماءُ الجاهلية موضوعة، وربا الجاهلية موضوع. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فُرُشَــكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتابَ الله، وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ويُنَكِّبها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد).

فاتقوا الله أمة الإسلام، ولتشكروا الله تعالى على نعمة إكمال هذا الدين، ولتستمسكوا به عن إيمان ويقين، ولتفرحوا بهدايتكم إليه مغتبطين، (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)[يونس58]، ولتتذكروا عباد الله أن الله عز وجل كما أكرم حجاج بيته في هذا اليوم بالوقوف في عرفات، وتحقيق ما يرجون من الرحمات، فإنه تعالى قد شرع لغيرهم ما يسليهم، ومن رحمته يدنيهم، حيث شرع لهم صيام هذا اليوم، ورتب على صيامه فضلاً عظيماً، وثواباً جزيلاً، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله e عن صوم يوم عرفة فقال: يكفر السنة الماضية والباقية)، فلتستشعروا عباد الله عظم هذا اليوم، وجليل قدره عند ربكم، وما يتنـزل فيه على العباد من الرحمات الربانية، والنفحات الإلهية، وما يفيض عليهم فيه سبحانه من سحائب فضله وجوده، وخزائن مغفرته ورحمته، ولتغتنموا ذلك بالإقبال على الله تعالى، والالتجاء إليه، والتذلل بين يديه، ولا سيما في عشية هذا اليوم، ودعائه عز وجل دعاء المضطرين، وسؤاله سؤال الخائفين الوجلين، بأن يغفر لكم الذنوب، ويتجاوز عن الآثام، وأن يمن عليكم بالفوز بالجنة، والنجاة من النار، (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فـاز وما الحيـاة الدنـيا إلا متاع الغرور)[آل عمران:185]، ولتبتهلوا إلى ربكم ولتجأروا إليه بأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وأن يرفع ما حلَّ ببعض بلاد الإسلام من البأساء والضراء، فادعوه سبحانه وأنتم موقنون بالإجابة، فإنه تعالى رحيم بمن دعاه، قريب ممن رجاه: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)[البقرة:186].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. 

 

 

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقاته، ولتغتنموا مواسم الخير والطاعة، ولتتقربوا إلى ربكم بجليل الأعمال الصالحة.

ألا وإن مما شرع الحق عز وجل في هذه الأيام الفاضلة من نوافل العبادة والطاعة: الإكثارَ من ذكره سبحانه وتعالى بالتكبير والتهليل والتحميد، ولا سيما في أدبار الصلوات المكتوبة، ابتداء من هذا اليوم لغير الحاج إلى آخر أيام التشريق، وأما الحاج فالمشروع في حقه الإكثار من ذلك من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، وصفة الذكر المستحب أن يقال: ( الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد).

وإن من أفضل ما يشرع في يوم النحر وأيام التشريق: التقربَ إلى الله تعالى بذبح الأضاحي، فإنها سنة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهدي نبيكم محمد e، فقد رغَّبكم فيها بفعله، وأكد ذلك بقوله: (ما عمل ابنُ آدم يوم النحر عملاً أحبَّ إلى الله من هِراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً). رواه الترمذي وابن ماجه.

ويسن لمن أراد أن يضحي أن يختار من الإبل أو البقر أو الغنم أسمنـها وأطيبها عند أهلها، وليجتنب المعيبة منها، فإنه لا يجزئ أن يضحى بالعوراء ولا العرجاء، ولا الهزيلة ولا المريضة، فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، ولا يجزئ أن يضحي إلا بما تم له خمس سنين من الإبل، وسنتان من البقر، وسنة من المعز، ونصف السنة من الضأن، وتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته، والبدنة والبقرة عن سبعة، ويسن أن تقسم الأضحية أثلاثاً، فيُهدى ثلثها، ويتصدق بثلثها، ويؤكل ثلثها، ووقت الذبح من بعد صلاة العيد، إلى آخر أيام التشريق، وتشترط التسمية عند الذبح، ويسن أن يتولى المضحي ذبحها بنفسه، أو يحضرها، وأن يقول عند ذبحها: (بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم تقبل مني) يقول عز وجل: (والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتَرَّ كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون، لن ينالَ اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين)[الحج:36-37].

فاتقوا الله عباد الله، وبادروا باغتنام هذه الطاعات، وتقربوا إلى ربكم بالأعمال الصالحات، تفوزوا بأعلى الدرجات.

المرفقالحجم
ملف 54فضل يوم عرفة.docx33.92 كيلوبايت
 

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">